Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
ثقافة وفنون

أحمدو همباتيه باه: رائد الأدب الشفاهي الأفريقي وحارس ذاكرة القارة

يعتبر أحمدو همباتيه باه واحدًا من أهم الكتاب والروائيين والمؤرخين الأفارقة، الذين قدموا مساهمات فكرية وثقافية متميزة غيرت النظرة العامة للقارة الأفريقية ومجتمعاتها، وحفظت تراث وتاريخ القارة التي اعتبرها الاستعمار الغربي مجتمعات بلا تاريخ ولا ثقافة ولا حضارة.

وذلك لأن التراث الأفريقي في غالبه تراث غير مكتوب، وإنما هو قصص عن بطولات الأجداد يكتبها الشعراء بلهجتهم المحلية، وتتداولها الأجيال في شكل قصص وأشعار وأغانٍ شعبية. وبالتالي فإن من يجهل اللهجات المحلية الأفريقية لا يمكنه أن يكتشف هذا الكَنز المعرفي الثري.

اهتم همباتيه باه منذ شبابه الباكر بالتراث والأدب الأفريقي الشفاهي، ودراسته وتحليله ومن ثم كتابته باللغات الحية، لا سيما باللغة الفرنسية، واستطاع بذلك أن يثبت أن أفريقيا لها تراث وثقافة عريقة وتاريخ ناصع ضارب في القدم، وأنها أسهمت وقدمت للبشرية الكثير، ولكنها تحدثت بلسانها المحلي، وحفظت هذا الموروث الحضاري الإنساني الضخم في أهازيج وأشعار وملاحم بطولية تنتقل شفاهية من جيل إلى جيل.

خاض همباتيه باه معارك كبيرة من على المنابر الدولية؛ بغية التعريف بالموروث الشفاهي الأفريقي، بالذات من على منبر اليونسكو. وقد أطلقت عليه اليونسكو لقب “العجوز المكتبة” لما يختزنه عقله من موروث ثقافي واجتماعي ضخم عن التاريخ الأفريقي. هذا الرجل العلم كُتب عنه كثير بالعديد من لغات العالم الحية، ولكن الكتابة عنه بالعربية قليلة جدًا، وهذا المقال محاولة للتعريف أكثر بهذا الهرم الثقافي والتراثي الأفريقي الفذ.

شعوب بلا حضارة

مقولة “شعوب بلا حضارة” كانت عبارة مفتاحية في حقبة الاستعمار الغربي للقارّة، ذلك أن المستعمر- جهلًا منه بتاريخ هذه القارة الضارب في القدم – ادعى أن أفريقيا قبل الاستعمار لم يكن لها حضارة، وأن حملة الاستعمار الغربي للقارة، إنما هي عمل إنساني في المقام الأوّل بغية تعليم شعوب هذه القارة الحضارة.

وتبنى هذا المنطق الخاطئ العديد من السياسيين والمثقفين الغربيين، ودافعوا عنه، وذلك لأن التاريخ الأفريقي تاريخ شفاهي، ويستخدم اللغة المحلية. بل وزادوا على ذلك بأن هذه الشعوب لم تكن تعرف معنى الحكم والسلطة المركزية، وأنها شعوب أقرب إلى الهمجية، وأن جيوش الاستعمار الزاحفة على القارّة وجدت أرضًا بلا شعب ولا نظام حكم، واستولت عليها لتبني لأهلها حضارة وتصنع لهم تاريخًا مشتركًا.

هذه الحجة الداحضة تصدى لها عدد من المفكرين الأفارقة وقدموا أطروحات قوية أثبتت خطأ هذا المنطق المعوج، ومن أشهر هؤلاء المفكرين، السنغالي البروفيسور الشيخ أنتا ديوب الذي قدم في خمسينيات القرن الماضي أطروحته للدكتوراه بعنوان “الشعوب السوداء والحضارة”.

وملخص رؤية الشيخ أنتا ديوب الذي درس الحضارة النوبية القديمة في وادي النيل، أن أقدم حضارة في العالم هي الحضارة النوبية، وأن النوبيين كانوا أفارقة، إذن فإن أفريقيا السوداء هي أصل الحضارة البشرية القائمة اليوم، وعليه فإن منطق الاستعمار بأنه جاء ليعلم الأفارقة الحضارة، هو منطق خاطئ ويسير عكس حقائق التاريخ والأنثروبولوجيا.

أما المفكر والباحث الاجتماعي الآخر فهو أحمدو همباتيه باه الذي درس الأدب الأفريقي الشفاهي وترجمه إلى الفرنسية ولغات حية أخرى، وأثبت أن الأفارقة لهم ثقافة وحضارة وتاريخ ضارب الجذور، وعليه فإن حجة الغرب لتبرير الاستعمار حجة داحضة. فمن هو أحمدو همباتيه باه؟

مدرسة تحت الأشجار

ولد المؤرخ والباحث الاجتماعي، أحمدو همباتيه باه في مطلع القرن العشرين، في حوالي العام 1900/1901 في منطقة ماسينا عاصمة مملكة الفولاني المشهورة في جمهورية مالي الحالية. ولد لأسرة من النبلاء، شديدة التدين، وشديدة الولاء للطريقة التيجانية.

ومثل كل أبناء جيله درس في طفولته القرآن الكريم، وتعلم الفقه والعلوم الشرعية واللغة العربية على يد شيخه الفقيه تشيرنو أبوبكر، الذي كان له أثر كبير في حياته والتزامه الصوفي.

التحق بالمدرسة الفرنسية وتعلم فيها، وكان نابهًا ومتميزًا، ولكنه وقف ضد إجبار الأفارقة على القتال إلى جانب المستعمر الفرنسي في الحرب العالمية الأولى. وتعبيرًا عن ذلك رفض الالتحاق بالمدرسة الثانوية الفرنسية الوحيدة في ذلك في الوقت في جزيرة غوري في السنغال.

وعقابًا له على ذلك الرفض تم نفيه إلى واغادوغو في مقاطعة فولتا العليا، المعروفة حاليًا باسم بوركينا فاسو، وكانت مقاطعة نائية وموحشة في مطلع القرن الماضي، ليعمل مترجمًا للحاكم الفرنسي هناك. كتب همباتيه باه عن تلك الرحلة المرهقة من باماكو عاصمة مالي إلى واغادوغو، ووصفها وصفًا دقيقًا في مذكراته بالفرنسية المسماة “نعم سيدي القائد”.

حكى كيف كان الضباط الفرنسيون يركبون على الجياد الأصيلة بينما الأفارقة يمشون راجلين أمامهم وهم يحملون الأمتعة والزاد، ولمس لأول مرة قهر المستعمر للسكان الأصليين. كان يستمع لقصص وأهازيج العمال المرافقين للضباط الفرنسيين، التي تحكي تاريخ بلادهم التليد وقصص ملوكهم وأبطالهم الملهمة. وربما كانت هذه الرحلة هي التي حفزته على أن يتعمق في الأدب الشفاهي الأفريقي ويقدمه لاحقًا للعالم في قصص وملاحم رائعة.

كانت فترة عمله في واغادوغو مهمة جدًا في تشكيل فكره، واكتشاف نفسه، واستغل وقته في الجلوس مع زعماء القبائل والشيوخ والشعراء التقليديين والمغنين، واستمع إليهم بانتباه وهم يحكون له تاريخ أسلافهم وأبطالهم والملاحم الكبرى التي خاضوها.

لقد تعمق في الأدب الأفريقي الشفاهي وجمع تراثًا كثيرًا، ونذر نفسه لنقل هذا التراث إلى العالم، باعتباره ميراثًا للإنسانية جمعاء. وكتب عن تلك المرحلة الباكرة من عمره قائلًا: “لقد تعلمت وتخرجت في مدرسة الأدب الشفاهي الأفريقي العظيمة، وكنت أتلقى دروسي تحت ظلال الأشجار الوارفة”.

في العام 1942، التحق كباحث بالمعهد الفرنسي لدراسات أفريقيا السوداء في السنغال “إفان”. وما يزال هذا المركز، واحدًا من أهم مراكز البحث في القضايا الأفريقية، ويتبع الآن لجامعة دكار. في هذا المعهد تجلت موهبته في كتابة التاريخ الأفريقي الشفاهي باللغة الفرنسية، ومن أهم أعماله كتابه عن تاريخ مملكة الفولاني في ماسينا. وهو بحث غير مسبوق عن تاريخ قبائل الفولاني.

على منبر اليونسكو

بعد استقلال بلاده، جمهورية مالي في العام 1960، التحق بمنظمة اليونسكو في باريس، واستغل هذا المنبر الدولي للدفاع عن الأدب الشفاهي الأفريقي، وكانت له صولات وجولات.

لقد أثار اهتمامه قلة الإلمام بالتراث الأفريقي الشعبي، لأنه ميراث غير مكتوب، وساءه جدًا وصف كثير من الغربيين للأفارقة بالأمية والجهل، وعدم المساهمة في إثراء الموروث الثقافي الإنساني. فانبرى للرد على هذه المزاعم، قائلًا: نعم قد نكون أميين لأننا لا نكتب، ولكننا لسنا جهلاء، نحن أصحاب ثقافة وتراث وتاريخ وأدب وحكمة وإيمان، ولكننا نعبر عن كل ذلك بلغاتنا المحلية التي عرفناها قبل قرون من معرفتنا للغة الغرب المستعمر.

وبدأ بحشد الدعم الأفريقي والدولي للحفاظ على التراث الأفريقي الشفاهي، وتصنيفه وكتابته وحفظه. وقال في هذا الصدد: “إذا كنا نؤمن بأن الميراث الإنساني لأي شعب هو ميراث لكل البشرية، فإن التراث الأفريقي إذا لم يجمع حالًا ويكتب على الورق، فإنه سيضيع يومًا ما من الأرشيف الإنساني الدولي”. وأثمرت جهوده المضنية والمستمرة، بأن تبنت منظمة اليونسكو برنامجًا كبيرًا لجمع وكتابة التراث الشفاهي والتاريخ الأفريقي، وترجمته وحفظه، على غرار برنامجها المعروف بالحفاظ على الآثار النوبية القديمة.

لقد بذل أحمدو همباتيه باه جهودًا كبيرة من أجل إقناع اليونسكو بتبني برنامج جمع وحفظ التراث الشفاهي الأفريقي. وفي سبيل ذلك أطلق من على منبر اليونسكو عبارته المشهورة: “إن موت عجوز أفريقي يعني احتراق مكتبة بأكملها”. وراجت هذه العبارة بشكل كبير، وترجمت للعديد من لغات العالم الحية، واتخذتها اليونسكو لتكون شعارًا لبرنامجها الضخم لجمع وكتابة التاريخ والتراث الشفاهي الأفريقي.

ويعتبر هذا البرنامج اعترافًا وتقديرًا من العالم للدور الذي قام به أحمدو همباتيه باه، وتتويجًا للمهمة الكبيرة التي نذر نفسه لها منذ شبابه الباكر، بأن يحفظ ذاكرة قارة كاملة من الضياع. وقد نال العديد من الأوسمة والميداليات والنياشين العالمية؛ تقديرًا لدوره في حفظ التراث الأفريقي.

لقد أثبت أحمدو همباتيه باه في كتاباته الغزيرة أن أفريقيا لها تاريخ عريق وثقافة ثرية، وزعماء عظام كان لهم سهم في إثراء التاريخ الإنساني. وأظهر في كتاباته البعد الروحي العميق للثقافة الأفريقية، وتأثير الإسلام والطرق الصوفية على فكر وثقافة وحياة الإنسان الأفريقي العادي، بالإضافة إلى القيم الأفريقية السامية، مثل: الشجاعة، والكرم، والصدق، والتواضع. إنه رجل جدير بالاحترام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى