بيرَقدار والمُهاجر: مُسيَّرات تركيا وإيران ترسم ملامح القرن الأفريقي
في صباح يوم 13 سبتمبر/أيلول من عام 2022، وفي قلب مدينة مِقِلّي عاصمة إقليم تيغراي بإثيوبيا، سَرَت الأمور وفق المُعتاد داخل مبنى محطة “ديمتسي ويان” الفضائية، التي أخذت تبُث لمشاهديها آخر مُستجدات الحرب الضروس الجارية بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي (مالكة القناة) وجيش الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا، حتى انقطع الإرسال فجأة، وتوقَّف البث التلفزيوني للقناة. بعد الانقطاع بقليل، تأكَّدت الأنباء عن هجوم للجيش الفيدرالي على مقر القناة، والذي نُفِّذ حينها باستخدام طائرات مُسيَّرة مجهولة المصدر.
لم تكُن القوات التيغرانية مجرد ميليشيا انفصالية أمكن دحرها بسهولة، بل كانت في الحقيقة شريكا أساسيا في الحكم والجيش طيلة عقود، حتى قرَّر آبي أحمد تنحيتها تدريجيًّا من المشهد عقب توليه رئاسة الحكومة عام 2018، فاندلع الصراع الأهلي المُسلح بين الطرفيْن وحلفائهما في أواخر العام 2021. وقد اشتدت المعركة على الأرض، وبدا أن الكفَّة تميل لصالح سيناريو سقوط حكومة آبي أحمد وعودة التيغرانيين إلى قلب السلطة بعد زحفهم على العاصمة. بيد أن الموازين سُرعان ما انقلبت لصالح أديس أبابا في شتاء عام 2022 بعد معارك متتابعة حُسِمَت من السماء، وبفضل الطائرات المُسيَّرة التي استجلبتها حكومة آبي أحمد من الخارج.
بنهاية عام 2022، أرسل “دِبرَصيون جَبر ميكائيل”، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، رسالة للأمين العام للأمم المتحدة يُعلمه فيها إنه أمر قواته بالانسحاب الفوري إلى داخل حدود الإقليم، بعد أن كانت على مشارف العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وقد أرجع الرجل قرار الانسحاب إلى الحاجة لحماية قواته وشعبه، وذلك بعد أن حصل الجيش الإثيوبي على طائرات مُسيَّرة من “قوى أجنبية” على حد وصفه، ساعدت الجيش في القتال، وانقضَّت على خطوط إمداد القوات التيغرانية بلا هوادة، فتحوَّل سير المعارك لصالح العاصمة، واضطُرت الجبهة التيغرانية في الأخير إلى التفاوض مع الحكومة.
لطالما كانت الطائرات المُسيَّرة حِكرا على القوى العسكرية الكُبرى، ولكنها لم تعُد كذلك في الأعوام القليلة الماضية، فقد دخل العالم حقبة جديدة بانضمام العديد من اللاعبين إلى هذا المجال، وانتقال استخدام المُسيَّرات من نطاق ضيق في حروب مكافحة الإرهاب ومكافحة التمرُّد إلى القتال النظامي والصراعات الأهلية الكُبرى. فمع تطوُّر التكنولوجيا وتقدُّمها واستخدام الذكاء الاصطناعي، أصبحت المُسيَّرات من أهم الأسلحة، خاصة بعد أن لعبت دورا حاسما في العديد من المعارك التي جرت مؤخرا، مثل إنقاذ الحكومة الليبية المُعترَف بها دوليا في طرابلس، والحرب بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم “ناغورني قره باغ”، والحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ عاميْن ونيف، وعملية طوفان الأقصى التي نفَّذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
بينما تشتعل النزاعات العسكرية في أفريقيا، لا سيَّما في القرن الأفريقي، تنظر القوى الدولية والإقليمية لهذه التطورات بوصفها فرصة لتعزيز نفوذها في إحدى أهم البؤر الجيوسياسية في العالم. وتقع منطقة القرن الأفريقي في أقصى شرق القارة، وتطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، وتضم أربع دول هي الصومال وجيبوتي وإريتريا ومن ورائهما إثيوبيا الحبيسة، والأخيرة هي الأكبر من حيث المساحة والتعداد السكاني. ويبلغ تعداد سكان المنطقة حوالي 150 مليون نسمة، ثلثيْهم داخل إثيوبيا، وتساوي مساحة المنطقة تقريبا مساحة دولة ليبيا (1.8 كيلومتر مربع)، وهي تعِج بالجماعات العرقية والدينية المختلفة، أشهرها الصوماليون والأمهريون والأوروميون والتيغرانيون والعَفَريون، ويمتد بعض من هؤلاء داخل أكثر من دولة، ويُشكِّل تداخلهم عادة خطوط الصراع السياسي في المنطقة.
إن سعي الأطراف المحلية كافة إلى تحقيق حسم ميداني على الأرض ضد خصومهم، مع غياب أفق لحل سياسي-اجتماعي لطالما ضاقت به عقول القادة المتحاربين، جعل أجندات التسليح الإقليمي والدولي تكتسب أهمية كبرى في صراعات القرن الأفريقي. ومن هنا وجدت جميع القوى ضالتها في المُسيَّرات المُقاتلة التي كان لها دور فعَّال في الصراعات الأخيرة الجارية على أرض تلك المنطقة المُلتهِبة والمأزومة. وفي ظل غياب الصناعات العربية المتطورة، فإن إيران وتركيا القابعتيْن في الشمال الشرقي للعالم العربي، وفي موقع ليس ببعيد عن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، لعبتا الدور الأبرز بطائراتهما المُسيَّرة في رسم ملامح الصراعات العسكرية بالمنطقة.
إثيوبيا: المُسيَّرات تحسم الصراع الأهلي
في صباح يوم 16 ديسمبر/كانون الأول من عام 2023، قلَّد رئيس الوزراء الإثيوبي”آبي أحمد” ورئيس أركان جيشه “بيرهانو جولا” المهندسَ التُركي “خَلوق بيرَقدار”، المدير العام لشركة المسيرات التركية بيرقدار، وسام الشرف الإثيوبي تقديرا لمساهمات الشركة في تعزيز ورفع كفاءة القوات الجوية الإثيوبية، وذلك ضمن احتفالية نُظِّمت بمناسبة مرور 88 عاما على تأسيس القوات الجوية في البلاد. ولكي نفهم الاحتفاء الإثيوبي، يجب أن نعود بالزمن عامين إلى الوراء، وتحديدا شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حيث كانت قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تحقق نجاحات ميدانية متتالية ضد الجيش الفيدرالي الإثيوبي وحلفائه من ميلشيات فانو الأمهرية والجيش الإريتري في الحرب التي اندلعت عام 2020 على خلفية قرار آبي أحمد اجتياح إقليم التيغراي شمالي البلاد.
Etiyopya Hava Kuvvetleri’nin 88. kuruluş yıldönümünde, Etiyopya Federal Demokratik Cumhuriyeti Onur Madalyası’na layık görülmekten büyük bir onur duydum.
Başbakan @AbiyAhmedAli‘nin huzurunda madalyayı takdim eden Genelkurmay Başkanı Mareşal Birhanu Jula ve Hava Kuvvetleri… pic.twitter.com/TMpezDFALg
— Haluk Bayraktar (@haluk) December 16, 2023
في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، كانت قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تستعِد للسيطرة على مدينة “دبر برهان”، التي تقع على بعد 130 كيلومتر فقط من العاصمة أديس أبابا، ضمن خطتها الناجحة -حتى ذلك التاريخ- من أجل تطويق العاصمة من أربعة محاور بالتعاون مع جيش تحرير الأورومو المتحالف معها، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة ودول مثل فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا إلى الإعلان عن عمليات إجلاء سريعة لدبلوماسييها وأسرهم، فيما أعلن آبي أحمد عبر تغريدة على حسابه الشخصي على منصة إكس (تويتر سابقا) أنه سينضم ليقاتل بنفسه مع القوات على الجبهات الأمامية للمعركة، مُفوِّضا صلاحياته لنائبه.
حدثت بعد ذلك تحولات درامية في سير المعارك أدت إلى تقدم تحالف آبي أحمد في القتال وسيطرته على مدن إستراتيجية مهمة وتوغله داخل إقليم التيغراي. وكان العنصر الأكثر فاعلية في قلب كفة الحرب وإرباك حسابات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي هو دخول مُسيَّرات مجهولة المصدر وعالية التقنية إلى المعارك، ولم تكن قوات الجيش الإثيوبي تمتلكها سابقا. وقد ظهرت وقتها تقارير مُعزَّزة بصور الأقمار الصناعية كشفت أن تلك المُسيَّرات لم تكن سوى بيرقدار التركية، وذلك في إحدى القواعد العسكرية التابعة للجيش الإثيوبي بمدينة “بحر دار” عاصمة إقليم الأمهرة شمالي غربي البلاد، علاوة على مُسيَّرات إيرانية أرسلتها طهران لجني الأموال في خضم أزمتها الاقتصادية، ومُسيَّرات غربية المنشأ أخرى أرسلتها الإمارات إلى حليفها الإثيوبي.
تصاعدت الضغوط الدولية والإقليمية لوقف إطلاق النار بعد أن أدي الصراع إلى ما يزيد عن 600 ألف قتيل وحوالي مليون نازح، ووافقت أديس أبابا بعد أن تعادلت القوى ميدانيا على الأرض مع أفضلية نسبية للجيش الإثيوبي بفضل الطائرات التي لم تعد مجهولة المصدر. ومن ثمَّ، أُعلِن في مدينة بريتوريا بجنوب أفريقيا عن التوصُّل لاتفاق سلام بين الطرفين، ووقف القتال بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والجيش الإثيوبي. وقد قوبل اتفاق بريتوريا برفض واستياء من حلفاء آبي أحمد، مثل الرئيس الإريتري “أسياس أفوِرقي” وميلشيات فانو الأمهرية، ولذا تحوَّلت الأخيرة إلى قتال الجيش الإثيوبي ومازالت المعارك دائرة بين الطرفين حتي الآن بعد فشل كل محاولات الوساطة.
أما العلاقة بين أسمرا وأديس أبابا فوصل التوتر فيها إلى أعلى مستوياته بعد إعلان آبي أحمد ضرورة وصول بلاده الحبيسة جغرافيا إلى المياه الدافئة (أي البحر الأحمر) في تلميح أثار غضب إريتريا التي كانت جزءا من دولة إثيوبيا في السابق قبل استقلالها عام 1993، ولها تاريخ من الصراع المرير مع إثيوبيا. وقد عزَّز هذا التوتر مذكرة التفاهم التي وقّعها آبي أحمد في مستهل هذا العام مع “موسي بيحي” رئيس إقليم أرض الصومال الساعي للانفصال عن جمهورية الصومال الفيدرالية، والذي منح إثيوبيا منفذا بحريا على سواحل الإقليم الانفصالي لمدة 50 عاما، بحيث تستخدمه أديس أبابا منفذا تجاريا وقاعدة لقواتها البحرية التي أعيد تأسيسها عام 2019، مع السماح لها باستخدام ميناء بربرة الواقع على ضفاف خليج عدن في مدخل مضيق باب المندب لأغراض التبادل التجاري مع العالم الخارجي.
وفي منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، نشرت وسائل إعلام محلية صورا تظهر استلام الجيش الإثيوبي أول شحنة مُسيَّرات إيرانية من طراز “المهاجر 6″، في حين لم يُعلَن عن المصدر الذي زوَّد أديس أبابا بهذه المُسيَّرات، لا سيَّما في ظل الأزمة الأقتصادية العنيفة التي تواجهها إثيوبيا ووصلت حدَّ تخلُّفها عن سداد سندات حكومية دولية في نهاية العام الماضي، ما أدى لتخفيض تصنيفها الائتماني من قِبل مؤسسة “فيتش” للتصنيف الائتماني. ومثلما كان لبيرَقدار أثر فاعل في تسوية الصراع الإثيوبي، جاء الدور على “المهاجر 6” كي تفعل الشيء ذاته، ولكن إلى الشمال قليلا من دولة إثيوبيا.
حرب السودان: مُسيَّرات فوق النيل
كانت قاعدة “وادي سيدنا” الجوية في الخرطوم على موعد مع “المهاجر 6” في مُستهَل هذا العام، حيث أفادت وكالة بلومبرغ وفقا لصور أقمار صناعية ومصادر لمسؤولين غربيين سابقين، بأن الجيش السوداني استلم شحنات من المُسيَّرات الإيرانية المقاتلة. لقد بدأ إنتاج “المهاجر 6” عام 2018، وأثبتت المُسيَّرة كفاءتها في أكثر من ميدان قتالي، كما استخدمتها موسكو مؤخرا في حربها على أوكرانيا، وهي مُسيَّرة تتميز بقدرتها على شن هجمات جو-أرض، وخوض الحرب الإلكترونية، واستهدافها لأهداف ثابتة ومتحركة في ساحة المعركة. وتستخدم “المهاجر 6” أيضا في الاستطلاع والتصوير، ويبلغ وزنها 600 كيلوغرام، وهي قادرة على البقاء في الجو لمدة 12 ساعة، علاوة على تجهيزها بكاميرا حرارية وبصرية، وقدرتها على حمل أربعة صواريخ موجهة بالليزر يصل مداها إلى ألفي كيلومتر.
تتمتَّع المُسيَّرات الإيرانية عموما بكفاءة عالية مُجرَّبة، حيث سبق واستُخدِمت في الهجوم على أهداف عدة كما وظَّفتها جماعة أنصار الله الحوثي اليمنية عام 2019، في إطار الصراع الدائر في اليمن مع دول التحالف، علاوة على استخدامها في ميادين القتال بسوريا والعراق ضد قواعد عسكرية أميركية. وكان استخدام المُسيَّرات حاضرا بقوة في الصراع الدموي بالسودان، والمستمر منذ ما يقرب من عشرة أشهر بين الجيش السوداني بقيادة “عبد الفتاح البُرهان” وقوات الدعم السريع التي يقودها “محمد حمدان دقلو” (حميدتي)، إذ أن الجنجويد تلقت في الأشهر الأولى للقتال هزائم وانتكاسات ميدانية متتالية قبل أن تستعيد توازنها وتُحقق تقدما ملحوظا لا سيَّما في دارفور، بعد حصولها على مُسيَّرات من الإمارات العربية المتحدة، حتى استعاد الجيش توازنه بفضل المسيرات الإيرانية.
يُعَد دخول “المهاجر 6” إلى ساحة المعارك تطوُّرا عملياتيا مُهِما يُعزِّز قدرات الجيش السوداني، الذي أعلن قائده عبد الفتاح البرهان بعد حوالي أسبوعين من انضمام المُسيَّرة الإيرانية إلى الترسانة الجوية لقواته عن تغيير الإستراتيجية العسكرية من الدفاع إلى الهجوم على جميع الجبهات وفقا للخطاب الذي ألقاه أمام حشد من الجنود والضباط بالفرقة 11 مشاة أثناء تفقده قوات الجيش بولاية “كسلا”، بالتزامن مع حراك لافت لتجميع قوات الحركات المتحالفة مع الجيش والموقِّعة على اتفاق جوبا للسلام في ولاية القضارف المجاورة لولاية الجزيرة التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي.
سُفراء ومُسيَّرات: أنقرة وطهران في القرن الأفريقي
كان تعزيز نفوذ طهران الجيوسياسي في أفريقيا هدفا استراتيجيا رئيسيا منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، حيث تأسَّست لجنة خاصة بالدول الأفريقية في وزارة الخارجية الإيرانية، ووصل عدد مكاتب التمثيل الدبلوماسي داخل القارة إلى 26 مكتبا أثناء العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية الوليدة. وشهدت فترة تولي الرئيس “محمود أحمدي نجاد” لمقاليد السلطة بين عاميْ 2005-2013 أزهى عصور التقارب الإيراني-الأفريقي بعد تدشين إستراتيجية التعاون مع الجنوب، التي شملت توريد النفط الإيراني والاستثمار في البنية التحتية بالقارة وإنشاء شركات وتقديم قروض وغيرها، ما عزَّز من النفوذ الإيراني في أفريقيا بشكل كبير. ولكن بعد تولي الإصلاحي “حسن روحاني” رئاسة البلاد عام 2013، شهدت أوجه التعاون والتقارب مع أفريقيا تراجعا ملحوظا لحساب تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب.
بعد وصول “إبراهيم رئيسي” إلى مقاليد الحكم عام 2021، وتولي “حسين أمير عبد اللهيان” حقيبة الخارجية، والذي شغل سابقا منصب نائب وزير الخارجية للشئون العربية والأفريقية، استردت العلاقات الإيرانية-الأفريقية مكانتها المحورية على رأس أولويات الجمهورية الإسلامية، وهو ما تجلى في عودة العلاقات بين إيران والسودان بعد قطيعة استمرت سبع سنوات إثر اقتحام سفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، حيث أعلنت الخارجية السودانية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين برعاية صينية. كما التقى وزير الخارجية السوداني “علي الصادق” في أوغندا بالنائب الأول للرئيس الإيراني “محمد مخبر” على هامش مشاركتهما في قمة دول عدم الانحياز التي استضافتها العاصمة الأوغندية كمبالا في يناير/كانون الأول من هذا العام. وأفاد بيان سوداني بأن المسؤوليْن ناقشا استعادة العلاقات الثنائية بين البلدين، وتسريع خطوات إعادة فتح السفارات بينهما.
من جهة أخرى، مثَّل صعود النفوذ التركي في أفريقيا جزءا من السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية التي استهدفت بها أنقرة التأثير في السياسة الدولية بالانفتاح على الدول غير الغربية، وساعد في ذلك الفراغ الجيوسياسي في المنطقة. وقد أعلنت أنقرة عام 2005 عام أفريقيا، وزار رئيس الوزراء آنذاك “رجب طيب أردوغان” إثيوبيا وجنوب أفريقيا، وكانت تلك أول زيارة من نوعها لرئيس وزراء تركي إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء. وتوالت بعدها جهود التقارب وازدادت سفارات تركيا في العواصم الأفريقية من 12 إلى 43 سفارة بين عامي 2002-2021، فأصبحت رابع أكثر الدول من حيث التمثيل الدبلوماسي في القارة بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا. وقد حاز البُعد الاقتصادي للعلاقات التركية-الأفريقية اهتماما خاصا، حيث انعقدت ثلاث مؤتمرات للشراكة التركية-الأفريقية بين عاميْ 2008-2021، وزادت تجارة تركيا مع أفريقيا من 3 مليارات دولار في العقد الأول من القرن العشرين إلى 25 مليار دولار عام 2020، ونفَّذت شركات المقاولات التركية أعمالا تصل إلى 71 مليار دولار في القارة.
في خضم سعيها للتواجد الإستراتيجي في القارة، مزجت أنقرة بين الأدوات الناعمة، مثل المساعدات الاقتصادية والإنمائية متمثلة في دور مؤسسة “تيكا” المسئولة عن تقديم المساعدات التركية الخارجية التي وصلت فروعها في أفريقيا إلى 22 فرعا، والمسارعة للاستجابة الإنسانية في حالة الكوارث الطبيعية على غرار الجفاف الذي ضرب الصومال عام 2011 وزيارة أردوغان لمقديشو وقتها ليكون أول قائد أجنبي يزور البلاد منذ عشرين عاما، والمنح التعليمية التي استفاد منها 15 ألف طالب أفريقي بين عامي 1992-2020. وفي مجال التعاون الثقافي والإعلامي تحسَّنت الصورة الذهنية لتركيا حيث اتخذت وكالة الأناضول من أديس أبابا مركزا لها في أفريقيا تقدم فيها دورات متنوعة للصحافيين الأفارقة باستمرار. كما شهد مجال العلاقات العسكرية والأمنية تعاونا متزايدا، حيث بلغت المكاتب العسكرية التركية في أفريقيا 37 مكتبا، وكانت أفريقيا أكثر المناطق نموا على مستوى صادرات الأسلحة التركية عام 2021، إذ زادت صادرات السلاح التركي للقارة بنسبة 700% ووصلت إلى 328 مليون دولار.
كان لـ “دبلوماسية المُسيَّرات” التركية والإيرانية دور رئيسي في صراعات القارة، وخاصة القرن الأفريقي، وشكَّلت أحد أهم أدوات النفوذ الإقليمي للبلديْن، وهو ما حقق لهما عدة أهداف، أبرزها الجيوسياسي والإستراتيجي المُتمثل في تعزيز التواجد على سواحل البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، بما لهذه المنطقة من أهمية اقتصادية وعسكرية وأمنية، حيث ترسو الأساطيل الإيرانية في خليج عدن منذ عام 2009 بحجة مواجهة القرصنة، كما توجد سِت بوارج حربية إيرانية في المياه الصومالية للهدف ذاته، ولحماية السفن التجارية الإيرانية.
أما تركيا فتمتلك قاعدة “تُركْسوم” العسكرية في الصومال، ثاني أكبر قاعدة عسكرية تركية في الخارج. وقد أكَّدت الحكومة الفيدرالية الصومالية في سبتمبر/أيلول 2022 استخدام المُسيَّرات التركية في العمليات العسكرية الجارية في عدة مناطق بجنوب ووسط البلاد، حيث أشار وزير الداخلية والفيدرالية والمصالحة الصومالي “أحمد معلم” في مقابلة مع قناة “يونيفِرسال” الإخبارية الصومالية إلى أن مُسيَّرات بيرقدار بدأت المشاركة في العمليات القتالية ضد مقاتلي حركة الشباب التي تنتمي إلى تنظيم القاعدة، وهي من أشرس امتدادات حركات السلفية الجهادية الفاعلة في القارة، ويرجع تأسيسها لعام 2004. وكانت الشباب الجناح العسكري لاتحاد المحاكم الإسلامية قبل أن تنفصل عنها بعد انخراط الأخيرة في العملية السياسية، وهي تملك تاريخا دمويا من الصراع والهجمات المسلحة، ليس في الصومال فقط، بل وفي دول الجوار مثل جيبوتي وكينيا، وتشكل تهديدا كبيرا على السلم والأمن في المنطقة ومازالت تسيطر على مناطق معتبرة من الصومال.
تمثل أفريقيا بوابة خروج لتركيا وإيران من هيمنة القوى الغربية، كما تُمكِّنهما من استخدام الكتلة التصويتية الكبيرة لدول أفريقيا في دعم مواقفهما السياسية داخل المؤسسات الدولية، لا سيَّما إيران التي عادة ما تعاني العُزلة الدبلوماسية. ويتمثل البعد الاقتصادي في محاولة طهران الالتفاف على العقوبات الأمريكية، حيث بلغت الصادرات الإيرانية للقارة بين عامي 2021-2022 حوالي مليار دولار، مع إعلان رئيسي عزم بلاده زيادتها إلى 5 مليارات دولار سنويا. وثمَّة رغبة لدى البلديْن في أن يكون لهما نصيب من احتياطيات النفط والغاز المُكتشفة حديثا في القرن الأفريقي، والاستثمارات التي ستنشأ عنها. يُضاف ذلك إلى ما تمتلكه القارة من موارد طبيعية هائلة غير مُستغَلة، خصوصا اليورانيوم بالنسبة لإيران، على غرار صفقة النفط مقابل اليورانيوم التي أبرمتها إيران مع زيمبابوي عام 2010، والغاز الطبيعي بالنسبة لتركيا، حيث أصبحت الجزائر رابع أكبر مُورِّد للغاز إلى تركيا.
من جهة أخرى، يواجه التمدُّد التركي والإيراني في القارة الأفريقية تحديات على مستويَّيْن أساسيَّيْن، أولها المستوى الداخلي، حيث يلعب الاستقرار السياسي في أنقرة وطهران دورا محوريا في مسيرة تعزيز نفوذ البلدين في أفريقيا، إذ أن التوجهات الإستراتيجية قد تختلف في أيٍ من العاصمتيْن بتغيُّر النظام الحاكم إذا ما وصلت للسلطة حكومة من خارج العدالة والتنمية في تركيا أو من غير المحافظين في إيران. وثانيها المستوى الخارجي، حيث يتعارض التمدد التركي والإيراني في القارة، خاصة في القرن الأفريقي، مع مصالح قوى دولية حريصة على حماية نفوذها. وختاما قد يؤدي نجاح دبلوماسية المُسيَّرات التي ينتهجها كل من تركيا وإيران في القرن الأفريقي إلى إغراء لاعبين إقليميين ودوليين آخرين باتباع الإستراتيجية نفسها لتعزيز نفوذهم، ما يفاقم من الصراعات متعددة الأطراف في أحد أشد المناطق سخونة في العالم.