رسائل وأمنيات مخبّأة في قلب بروكسل تركها بناة المدينة

أمستردام – في قلب مدينة القنوات والثقافات المتنوعة، برز فيلم وثائقي قصير بعنوان “Wishful Filming” (فيلم الأماني) ليثير نقاشًا حول الهجرة، العمل، والذاكرة في العصر الحديث. الفيلم، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان دوكليسبوا بالبرتغال وحاز على جائزة أفضل فيلم وثائقي عن بيئة العمل، وصل إلى مهرجان إدفا الدولي للأفلام الوثائقية في أمستردام، مقدمًا نظرة فريدة على حياة العمال المهاجرين الذين يبنون مدننا. هذا العمل السينمائي يجمع بين البساطة الشعرية والعمق السياسي، ويطرح أسئلة مهمة حول الكرامة الإنسانية في ظل تحديات العولمة.
الفيلم من إخراج سارة فاناغت، ويتتبع كاميرتها الصغيرة في شوارع بروكسل، حيث تتجول بين مواقع البناء المختلفة. بدلًا من البحث عن مشاهد درامية أو لقطات استعراضية، تركز فاناغت على التقاط لحظات حميمية: رسائل وأمنيات يكتبها العمال بأنفسهم، ويخفونها في أماكن غير متوقعة داخل المباني قيد الإنشاء – في فجوات الجدران، تحت أحجار الرصيف، وفي الأعمدة الخرسانية.
فيلم الأماني: رسائل من قلب مدينة بروكسل
تستند فكرة الفيلم إلى تقليد أوروبي قديم، حيث كان البناة يتركون علامات شخصية أو تمنيات داخل المباني التي يشيدونها، كنوع من التواصل مع الأجيال القادمة. اكتشفت فاناغت هذا التقليد خلال دراستها في لندن، وشعرت بأن هذه الرسائل المخفية تحمل في طياتها قصة إنسانية تستحق أن تُروى.
ولكن الفيلم لا يكتفي بإحياء هذا التقليد القديم، بل يقدمه في سياق معاصر يعكس واقع المدن الأوروبية اليوم. فعمال البناء الذين التقت بهم فاناغت جاؤون من خلفيات ثقافية متنوعة – بولندا، إيران، البرازيل، المغرب، بلجيكا وغيرها – مما يجعل الفيلم بمثابة مرآة تعكس التنوع العرقي والاجتماعي للمهاجرين الذين يساهمون بشكل كبير في بناء هذه المدن.
تحديات الوصول إلى العمال
لم يكن الوصول إلى العمال المهاجرين مهمة سهلة، بحسب فاناغت. استغرق الأمر سنوات من المحاولة قبل أن تتمكن من الدخول إلى مواقع البناء وكسب ثقة العمال للمشاركة في هذا المشروع. كانت فكرة الفيلم بسيطة: أن تقدم لهم فرصة للتعبير عن أنفسهم من خلال كتابة رسائل وإخفائها في المباني التي يعملون عليها.
لغة عالمية من الأمل
تتميز الرسائل المخبأة في الفيلم بتنوعها وعفويتها. بعضها يحمل تمنيات بسيطة، وبعضها الآخر يعبر عن مشاعر عميقة حول الغربة والعمل والأسرة. الرسائل مكتوبة بلغات مختلفة، مما يعكس التنوع اللغوي والثقافي للعمال. والأهم من ذلك، أن الرسائل تحمل كلها رسالة أمل وإيمان بمستقبل أفضل.
“كنت أبحث عن تقاطع بين الرسائل المخفية من الداخل والرسالة المخبأة في المدينة نفسها، عن هذا النوع من الحوار بين البنائين والمستقبل الذي يبنونه,” تقول فاناغت
الفيلم يسلط الضوء بشكل غير مباشر على قضايا الهجرة والعمل غير الرسمي في أوروبا، ويطرح أسئلة حول حقوق العمال وظروف عملهم. ويؤكد على أهمية إعطاء صوت للمهمشين والمنسيين، والسماح لهم بالتعبير عن أنفسهم وترك بصمتهم في العالم.
أصداء الفيلم في مهرجان إدفا
يقدم مهرجان إدفا هذا العام تركيزًا خاصًا على الأفلام التي تتناول قضايا إنهاء الاستعمار والعدالة الاجتماعية. وفي هذا السياق، يكتسب “Wishful Filming” أهمية خاصة، حيث يروي قصصًا عن العمال المهاجرين الذين يساهمون في بناء مدن أوروبية، لكنهم غالبًا ما يُهمشون ويُستغَلون.
الفيلم لا يقتصر على توثيق واقع العمال، بل يقدم أيضًا نقدًا ضمنيًا للمؤسسات التي تستغلهم. فهو يطرح سؤالًا حول من يملك المدن التي نعيش فيها، ومن يستفيد من بنائها؟
من المتوقع أن يثير الفيلم نقاشًا واسعًا حول هذه القضايا، وأن يلهم المزيد من الأعمال السينمائية التي تسلط الضوء على حياة العمال المهاجرين وتحدياتهم. كما أنه قد يدفع إلى إعادة النظر في سياسات الهجرة والعمل في أوروبا، بهدف ضمان حقوق العمال وتوفير ظروف عمل لائقة لهم.
مستقبل الفيلم وأثره لا يزال غير واضحًا. لكن الفيلم يسلط الضوء على قضايا ملحة، ويذكرنا بأهمية التضامن مع العمال المهاجرين، وضرورة العمل من أجل عالم أكثر عدالة ومساواة. ما سيحدث في المدى القريب والبعيد، وآثار هذا الفيلم، سيتضح في الأيام والأسابيع القادمة.





