رواية “مقعد أخير في الحافلة” لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام مآسي الواقع

من الصعب على الكاتب أن يكشف عن جميع أوراقه في بداية الرواية، ومن الصعب أحياناً على المتلقي أن يتابع القراءة عندما يتبين له الحدث الأساس للرواية من الصفحة الأولى. حادث سير مروع لمجموعة من الموظفين قبيل عيد الأضحى. مات من مات وجرح من جرح، فماذا بعد في جعبة الكاتب ليقول؟ يبدو أن أسامة زيد في باكورة أعماله الروائية “مقعد أخير في الحافلة” والصادرة في العام 2025 عن دار الرواق للنشر في مصر، اتخذ الطريق الشائك، والأخطر إن صح القول. هذه الرواية، التي تقع في 197 صفحة، تستكشف بعمق تبعات الحوادث المأساوية على حياة الأفراد والمجتمع.
تتناول الرواية قصة مجموعة من الموظفين الذين يتعرضون لحادث سير مروع، وتتبع رحلة الناجين وهم يحاولون التعامل مع الصدمة والندوب الجسدية والنفسية التي خلفها الحادث. العمل الأدبي يلقي الضوء على قضايا مثل الذنب، والفقدان، والمعنى من الحياة، ويقدم تصويراً واقعياً ومؤثراً لتأثير المأساة على العلاقات الإنسانية. الرواية تستخدم حادث السير كرمز للتحديات غير المتوقعة التي تواجهنا جميعاً.
هل من نجاة بعد الحادث؟
تبدأ الرواية بالوصف التفصيلي للحادث، مشهد سينمائي بكل المقاييس ومشحون بالكثير من المشاعر المتضاربة لكل شخصية كانت جالسة في تلك الحافلة المنكوبة. الكاتب ينجح في نقل القارئ إلى قلب الحدث، مما يجعله يشعر بالصدمة والارتباك اللذين عاشهما الناجون.
ثوانٍ قليلة تفصل بين البقاء والفناء، بين العودة والغياب الأبدي، عن عائلة، عن أبناء، عن أقارب… وعن حياة اعتادوها لن تكون كما كانت من قبل. وهنا تطرح الرواية التساؤل الجوهري الأول: ما معنى النجاة؟ هل أن ينجو جسدك من حادث سير يعني بالضرورة نجاتك الحقيقية من تبعات ذلك الحادث؟ إن عالجوا رضوض جسدك وخدوشه، من يعالج كدمات روحك؟
تتعمق الرواية في استكشاف حياة كل شخصية بعد الحادث، وكيف تغيرت نظرتهم إلى الحياة. يواجه الناجون صراعات داخلية وخارجية، حيث يحاولون إعادة بناء حياتهم والتصالح مع ماضيهم. العمل الأدبي يبرز أهمية الدعم الاجتماعي والعاطفي في عملية التعافي.
الشخصية الرئيسية وعقدة الذنب
رغم مرور الكاتب على الكثير من الشخوص في الرواية والحديث ببانورامية لافتة عن حيواتهم قبل وبعد الحادث، لكن تبقى شخصية آدم هي الشخصية الأساس في العمل، ليس فقط بسبب المساحة الكبيرة المفرودة لها في الرواية، ولكن أيضاً بسبب تركيبها المعقد، والصراعات النفسية الداخلية التي تعصف بها. تبدأ هذه الصراعات من علاقته المتوترة بوالده الراحل وطريقة تربيته الصارمة والقاسية في كثير من الأحيان، وعقدة الذنب التي رافقته طيلة حياته.
يعتقد آدم أن والده مات كمداً بسبب سفره، وتتفاقم هذه المشاعر بعد الحادث عندما يقدم مقعده في الحافلة لأبي المجد. يشعر آدم بالمسؤولية عن وفاة أبي المجد، ويعتقد أنه كان بإمكانه إنقاذه لو تصرف بشكل مختلف. هذه المشاعر تؤدي إلى تدهور حالته النفسية وتجعله يعيش في حالة من اليأس والندم.
مأساة الكاتب وتأثيرها على العمل
لفتني أن الكاتب متمكن من شخوص الرواية، يحبكهم بتأنٍ، يعتني بهم، كأب عطوف، يقسو أحياناً ويغفر أحياناً أخرى. والأجمل من ذلك أن أسامة زيد يرسم شخوصاً غير موجودة بشكل فعلي في الرواية. فوالد آدم لا يظهر في أي مشهد باستثناء كوابيس آدم، وسامر قابع في المستشفى، وأبو المجد يظهر في مشهد واحد قبل الحادث، ومع ذلك يرسمهم أسامة كشخوص من لحم ودم يبقى تأثيرهم الفعلي قوياً في العمل.
ذكر أسامة زيد في حوارية له أن الحادثة التي رواها في الرواية هي واقعة حقيقية وقعت له بالفعل، إذ في الحافلة كان هو آدم الذي قدم مقعده لأبي المجد. هذا يكشف عن الجانب الشخصي والمؤثر في العمل، ويجعله أكثر صدقاً وتأثيراً على القارئ. الكاتب ينجح في تحويل تجربته الشخصية إلى عمل فني يلامس مشاعر الإنسانية.
الرواية تستخدم تقنيات سردية متنوعة، بما في ذلك الحوار الداخلي، والوصف التفصيلي، والتلاعب بالزمن، لخلق تجربة قراءة غنية ومثيرة. الكاتب يظهر مهارة عالية في بناء الشخصيات وتطوير الأحداث، مما يجعل القارئ يشعر بالانغماس الكامل في عالم الرواية. العمل الأدبي يمثل إضافة قيمة إلى الأدب العربي المعاصر.
من المتوقع أن تشهد الرواية إقبالاً كبيراً من القراء والنقاد، وأن تثير نقاشات حول قضايا مهمة مثل المأساة، والذنب، والمعنى من الحياة. من المرجح أيضاً أن يتم ترجمة الرواية إلى لغات أخرى، مما سيزيد من انتشارها وتأثيرها على مستوى العالم. يبقى أن نرى كيف سيستقبل الجمهور هذا العمل الجديد، وما هي الجوائز والتقديرات التي سينالها.





