في مئوية “الرواية العظيمة”.. الحلم الأميركي بين الموت والحياة أدبيّا

تحتفي الأوساط الأدبية والإعلامية حاليا بحلول الذكرى المئوية لنشر رواية “غاتسبي العظيم” للكاتب فرنسيس سكوت فيتزجيرالد (1896-1940) التي تحولت على مر العقود إلى مرآة يتفحّص فيها كل جيل وجهه ويتساءل عن مصير الحلم الأميركي كما ورد في ذلك العمل الأدبي الذي يوصف بـ”الرواية العظيمة”.
وشهدت عدة ولايات أميركية طيلة الأسابيع القليلة الماضية سلسلة من الفعاليات الثقافية والفنية والأدبية في المكتبات العامة والمسارح ودور السينما والمؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها احتفاء بهذه العمل الأدبي الذي نشر يوم 10 أبريل/نيسان 1925 وأصبح من كلاسيكيات الأدب الأميركي الحديث.
تستوحي الرواية أجواءها وروحها وشخوصها وعوالمها من عشرينيات القرن العشرين في أميركا وتحديدا نيويورك، وهي حقبة كانت مفعمة بالآمال العريضة حيث بدأ الحلم الأميركي يتشكل في أحضان منظومة ثقافية جديدة تتسيد فيها العادات الاستهلاكية والترفيهية وتزدهر صناعة السينما في هوليود والمسرح في برودواي.
في هذه الأجواء الصاخبة والمتخمة بالأحلام والحبلى بالإمكانيات أصدر فيتزجيرالد، وهو في سن الثامنة والعشرين، رواية “غاتسبي العظيم” التي ترسخت في أذهان القراء مقترنة بمعاني الطموح والوصولية والانتهازية والثراء الباذخ والتفسخ الأخلاقي، وطغيان مظاهر الحياة المادية.
تقدم الرواية غاي غاتسبي في صورة مليونير عصامي، يلهث وراء ديزي بوكانان، وهي شابة ثرية سقط صريعا في هواها في شبابه.
يتتبع القارئ مجرى الأحداث كما يرويها نيك كارواي، وهو بائع سندات في نيويورك تخرج من جامعة ييل العريقة، وانتقل إلى حي ويست إيغ الخيالي في لونغ آيلاند الذي يقطنه الأثرياء الجدد، ممن راكموا ثرواتهم باللجوء إلى وسائل غير نظيفة وهناك سيلتقي من جديد بغاتسبي الذي سبق أن تعرف عليه عندما خدما معا في صفوف الجيش خلال الحرب العالمية الأولى.
في لحظة ما من تلك العلاقة، سيطلب غاتسبي، الذي يعيش حياة صاخبة في قصر فخم، من نيك مساعدته في إعادة التواصل مع ديزي التي شغف بهواها عندما كان ضابطا في الجيش وانقطع التواصل بينهما وهي حاليا متزوجة من توم بوكانان.
وفعلا سيحقق نيك ذلك لغاتسبي، بواسطة صديقته جوردان بيكر التي تربطها علاقة صداقة قوية بديزي. هكذا تتجدد العلاقة بين غاتسبي وعشيقته، لكنّ زوجها سيكتشف تلك العلاقة العاطفية ويصطدم به صداما قويا، ويجاهر له بحقيقة كونه (غاتسبي) مجرد محدث بالنعمة، راكم ثروته من بيع الكحول بطريقة غير مشروعة خرقا لقانون صارم كان معمولا به في تلك المرحلة.
وفي باقي الفصول، تتسارع الأحداث وتتشابك المصادر والمشاعر وتصطدم ديزي وهي تقود سيارة غاتسبي، بعشيقة زوجها، ميرتل ويلسون فتقتلها، وفي الأخير يقدم زوج ميرتل على قتل غاتسبي، معتقدا أنه هو من قتل زوجته، ثم يقتل نفسه.
أما الراوي نيك فيجد نفسه في نهاية المطاف في مهب الأسئلة الحارقة عن مغزى الحياة والسعادة، متأملا في النهاية المأساوية لصديقه غاتسبي الذي انتهى به الأمر قتيلا منبوذا لم يشارك في تشييع جنازته سوى عدد قليل من الناس.
وهكذا يقرر نيك المسكون بالهواجس الفلسفية والميّال للتساؤل عن حقيقة الأشياء وغاياتها، مغادرة نيويورك الصاخبة والعودة إلى مسقط رأسه في ولاية مينيسوتا في الغرب الأوسط، متقززا من حياة الأثرياء الجدد اللاهثين بكل السبل وراء سراب الحلم الأميركي.

ولادة جديدة
عندما نشر فيتزجيرالد رواية “غاتسبي العظيم”، كان كاتبا مشهورا وساهمت روايتاه السابقتان “هذا الجانب من الجنة” و”الجميلة والملعونة”، في التقاط أجواء تلك الحقبة، أما مجموعته القصصية بعنوان “حكايات عصر الجاز” (1922) ، فقد جسدت بطريقة خاصة روح ذلك العصر.
لكن المفارقة أن رواية “غاتسبي العظيم” كانت في البداية أقل نجاحاً من سابقاتها ولم تحظ برضا الأوساط النقدية وإقبال القراء، وكاد النسيان يطويها مع نهاية عشرينيات القرن العشرين بانهيار سوق الأوراق المالية، وتلاشي حكايات الثراء أمام الكساد الكبير، وهكذا أصبح فيتزجيرالد وموضوعاته خارج السياق والتداول.
وفي عام 1940 توفي فيتزجيرالد بعد أن عاش سنواته الأخيرة تحت وطأة الإحساس بالفشل، معتقدا أن روايته سيطويها النسيان برحيله.
لكن القدر كان يخبئ للرواية حياة أخرى بعد وفاة مؤلفها. ففي عام 1942 طُبعت الرواية من جديد، وفي مبادرة لتوزيع الكتب على الجنود المشاركين في الحرب العالمية الثانية، كان نصيب “غاتسبي العظيم” نحو 155 ألف نسخة.
وترجح كثير من المصادر أن تلك النقلة في توزيع الرواية ساهمت في تعزيز شعبيتها وكتبت لها ولادة جديدة، قبل أن تصبح في فترة الخمسينات جزءا من المناهج المقررة للمدارس الثانوية والجامعات في الولايات المتحدة وخارجها.

حياة على الشاشة
وإضافة إلى النسخة المطبوعة، كتبت لرواية “غاتسبي العظيم” أكثر من حياة حيث انكب كُتّاب المسرحيات، وصانعو الأفلام، ورسامو الكاريكاتير، وغيرهم من الفنانين على تحويلها إلى شيء آخر فكانت مادة لعدة أفلامٍ سينمائية طويلة، وعدد من المسلسلات التلفزيونية، والأعمال الأوبرالية والمسرحيات الموسيقية.
وفي أحدث نسخة سينمائية، صدر فيلم “غاتسبي العظيم” في عام 2013 بميزانية ضخمة وتقنيات سينمائية حديثة ولعب فيه النجم الأميركي ليوناردو دي كابريو دور البطولة متقمصا دور غاي غاتسبي، بينما لعب توبي ماغواير دورَ الراوي نك كاراويه.
وقبل ذلك بنحو أربعة عقود، وتحديدا في عام 1974، صدرت نسخة سينمائية من الرواية بسيناريو من توقيع فرانسيس فورد كوبولا وحققت نجاحا باهرا ولعب فيها روبرت ريدفورد دورَ غاتسبي، وأدت مايا فارو دورَ ديزي بوكانان.

صدى عربي
على غرار عشرات اللغات العالمية، تُرجمت رواية “غاتسبي العظيم” إلى اللغة العربية أكثر من مرة وأحدثها كانت في عام 2008 وصدرت عن دار نشر في الأردن.
وبالنظر إلى مكانة الرواية في الآداب المكتوبة باللغة الإنجليزية ولمكانتها الاعتبارية في الثقافة الأميركية، فقد كان لها نصيب ضمن المقررات والمناهج الدراسية في أقسام اللغة الإنجليزية في كثير من الجامعات العربية.
أما على الصعيد العام من حيث المقروئية والتأثير الأدبي في العالم العربي فإن الأمر ظل محدودا للغاية مقارنة بما حققته أعمال أدبية أخرى صدرت في نفس الفترة مثل “الصخب والعنف” (1929) لوليام فوكنر التي صدرت في ترجمة بديعة من الكاتب جبرا إبراهيم جبرا، وأقر كتابٌ عرب كثر بتأثرهم بها.
وربما يعزى ذلك الصدى المتواضع إلى خصوصية “غاتسبي العظيم” وارتباط الرواية بسياق أميركي خاص لا يستوعبه ولا يعي خلفيته ومعانيه إلا الأميركيون أو من استهوتهم أميركا وأسلوب الحياة فيها، وذلك الحلم الوردي الذي لا يزال يداعب خيال الملايين.

من هو غاتسبي الحالي؟
وهنا يطرح السؤال: ماذا بقي من الحلم الذي صاغته تخييليا “غاتسبي العظيم” ولو أن كثيرا من الوقائع تستند إلى أحداث وشخوص حقيقية في التاريخ الأميركي وإلى تجارب شخصية في حياة الكاتب فيتزجيرالد؟
الإجابة عن ذلك السؤال قد تتبادر إلى الأذهان بإسقاطات وتداعيات بسيطة تربط بين “غاتبسي العظيم” المتخيّل وبين وجوه وشخصيات كثيرة في المشهد الأميركي العام تجسد نفس ملامحه: شقاوة وطموح وعصامية وانتهازية ونهاية مأساوية…
هؤلاء “الغاتسبيون” قد يكونون ملايين على أرض الواقع في دواليب السياسة والإعلام، وفي وادي السيليكون وفي وول ستريت، وفي سوق العقارات والمضاربات وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، أما هوليود فقد أنتجت مئات الأفلام المستوحاة من “الحلم الأميركي”، لكن هل يوجد في عالم الأدب “فيتزجيرالد” جديد لإعادة كتابة الحلم الأميركي روائيا؟.