“كان يا ما كان في القدس”.. ذاكرة عائلة شاهدة على تاريخ المدينة والنكبة

القاهرة- في إصرار شديد على الإمساك بمقود الزمن وتجميده حتى لا تفلت أحداثه من الذاكرة، وحتى تبقى حوادث الماضي غضة طازجة، لا يصيبها القدم ولا تنال منها السنون، تقف حكايات وذكريات السيدات المقدسيات عن مدينة القدس، كي تخلقها من جديد، وترسم لها لوحة الخلود المرصعة بالحكايات الإنسانية الصغيرة من أفراح كانت في الزمن الغابر قبل أن يلطخها الاحتلال بالدماء والغضب.
حكايات كثيرة عن المدينة المقدسة لا تنساها ذاكرة المقدسيات حتى بنين لمدينتهن المحتلة نموذجا حيا عندما كانت مدينة السلام، في ذاكرة 3 أجيال عن مدينة القدس، هي حكايات الجدة والأم والحفيدة جين سعيد شقيقة المفكر إدوارد سعيد التي روت فيها طفولتها ونكبتها.
وتأتي ذكريات “كان يا ما كان في القدس” للدكتورة سحر حمودة لتسجل فيها حكايات والدتها المقدسية هند فتياني، عربون وفاء للأم وللمدينة التي تحملت كل الويلات والعذابات لكونها مدينة السلام التي اكتوت بنيران الحقد والحرب والكراهية على مر التاريخ.
أسندت إلى عائلة الفتياني وظيفة الفتوى أو مقام المفتي، وهي أسمى مركز روحي ووظيفة مدنية في الأراضي المقدسة، وكذلك أعاد القائد صلاح الدين تسمية العائلات، كل حسب وظيفته الجديدة
صلاح الدين يسند وظائف إلى عائلات مقدسية
وتبدأ الحكاية على لسان الأم عندما دخل صلاح الدين مدينة القدس عام 1187م/583هـ ودموع النصر تكلل وجنتيه، وقد وجد أن كل بوابة من البوابات العشر المحيطة بالحرم الشريف تسكنها عائلة، وقام صلاح الدين بإسناد وظائف معينة لكل عائلة من العائلات التي كانت تسكن حول أبواب الحرم الشريف.
وقد أسندت إلى عائلة الفتياني وظيفة الفتوى أو مقام المفتي، وهي أسمى مركز روحي ووظيفة مدنية في الأراضي المقدسة، وكذلك أعاد القائد صلاح الدين تسمية العائلات، كل حسب وظيفته الجديدة، فعائلة “السقا” كانت مسؤولة عن إمداد الناس والقائمين بالحرم بالماء، بينما عائلة “المؤقت” المسؤولة عن مواقيت الصلاة وإقامتها ورفع الأذان.
وأما القائم بأمر الفتيا في الدين والشريعة فأطلق على عائلته لقب “الفتياني”، إذ كانت العائلة مشهورة برجالها الأتقياء وعلماء الدين، وأنهم من سلالة الإمام الحسن حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر بعض رجالها مع الفتوحات الإسلامية الأولى من الحجاز إلى القدس، ومن عائلة الفتياني كان يختار مفتي الأراضي المقدسة، وعليه آل اللقب إلى أجيال العائلة أبا عن جد.
وفي نهاية القرن 19 بدأت مكانة آل الفتياني تتهاوى، فكان إنجاب الإناث أكثر من الذكور، ومن ثم انتقلت الفتوى إلى آل الحسيني، واستمرت حتى الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين وقائدها السياسي عبد القادر الحسيني -بطل المقاومة الذي فقد حياته دفاعا عن وطنه- وابنه فيصل الحسيني.
لدار الفتياني في نفوس أهلها مكانة بعيدة الأغوار، حيث تتقصى بطلة الكتاب آثار هذه الدار جغرافيا وتاريخيا من خلال قاطنيها وعاشقيها
حكاية عائلة في كتاب
الكتاب من تأليف الدكتورة سحر حمودة، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة الإسكندرية، وهو عن مذكرات والدتها السيدة هند فتياني مترجمة الكتاب للعربية، وهند فتياني مولودة بالقدس 1929 في فترة الاحتلال البريطاني، وذهبت للدراسة في بيروت عام 1946، وحين اندلعت حرب 1948 كانت النكبة ولم تستطع العودة إلى فلسطين، فذهبت إلى القاهرة وأكملت دراستها بالجامعة الأميركية، وتزوجت مصريا وأنجبت ولدا وبنتا، وعملت بالأمم المتحدة والأكاديمية العربية للنقل البحري حتى تقاعدت.
ولدار الفتياني في نفوس أهلها مكانة بعيدة الأغوار، حيث تتقصّى بطلة الكتاب آثار هذه الدار جغرافيا وتاريخيا من خلال قاطنيها وعاشقيها، وتنقل المؤلفة عن حكايات أمها قصصا غائرة في التاريخ البعيد، حكايات تناقلتها الأجيال حتى أضحى البعض يعتقدها أساطير الزمن الغابر، إلا أن الوثائق تعيد حقيقة الحكايات، ليصبح التاريخ المروي واقعا شهدت به الوثائق في العصر الحديث.
والكتاب رغم عنوانه التشاؤمي عن ماض أسطوري مثل حكايات ألف ليلة وليلة، من خلال سردية الأم التي لم تُخرج الدار بحجرها وبشرها من نفسها ما بقيت حية، وهي تتذكر هذا العالم بكل حنين الذكريات الغابرة، وتقول: هناك عالم فريد لسيدات مكنونات كالدر النفيس، ورجال ذوي بأس شديد، وهناك أيضًا دار قائمة في واحدة من أقدس بقاع الأرض، بين جدرانها عاشت حيوات عادية لرجال ونساء وأطفال، وحيوات غير عادية لأبطال ومناضلين ومساحة تنتهكها وتسطو عليها نعال العسكر وكعوب بنادقهم.
هناك تقبع جذوري التي تعود إلى زمن سحيق، ولا عجب، فقد بقيت الدار قائمة حين استعاد صلاح الدين القدس، استدعى صوت نساء القدس اللواتي أسكتتهن التقاليد والرجال والاحتلال وأنواع الاضطهاد جميعها، سأسجل قصة هذه العائلة المقدسية التي ترجع إلى ما قبل عام 1948، قبل أن تمضي إلى غياهب النسيان.
الحكايات أصدق إنباء من التاريخ
كانت حكايات أم الدكتورة سحر حمودة هي أساس الكتاب، ولكنها ذهبت إلى التاريخ تستدعي حقائقه وأحداثه التي أخبرتها بأن الدار كانت مدرسة تدعى “المدرسة العثمانية” تقع على اليسار عند الخروج من بوابة الحرم من باب المطهرة، وهي إحدى بوابات حائط الحرم الغربي، أوقفتها سيدة من نبلاء الأتراك التي توفيت في القدس ودفنت بجانب باب الرحمة بالقرب من حائط المسجد الأقصى.
وترسم المؤلفة صورة لهذه الدار من خلال حكايات الأم، تلك الدار التي تبدو كبيرة ومتعددة السلالم والحجرات والأفنية، والتي كانت في الأساس مدرسة دينية قبل أن يسكنها آل الفتياني، وتقول إن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى داخل الدار وخارجها كان من ساحة الحرم الشريف الداخلية حيث تقابلك زاوية.
والزاوية هي مكان اجتماع أعضاء الطرق الصوفية تقود إلى فناء مستطيل على كل جانب منه مصطبة كما الأريكة، وعلى الجانب الأيسر غرفة صغيرة تضم قبر ولي من العائلة مغطى بكسوة من المخمل الأخضر المطرز بخيوط من ذهب، وحوله مصابيح الزيت المضاءة ليل نهار، وعلى الجانب الأيمن توجد أبواب منازل الأعمام ساكني الزاوية، وفي نهاية الممر يدخل النور من مسجد قديم مهجور، ورغم قدمه فله قداسته وحرمته.
وعلى الجانب الأيمن من المسجد يوجد قوس ضخم يقوم على سلالم واسعة مؤدية إلى باب الدار يزيدها هيبة إلى جانب تحصينها، وتصعد سلالم ضيقة فتتملكك الدهشة والانبهار وأنت تدخل صحن الدار الفسيح المبهج بنسيمه العليل وأزهاره البديعة وأشجار العنب والليمون. ومن هذا الصحن تدخل إلى سطوح السلطانية لترى بانوراما كاملة للحرم الشريف والمسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، وفي الخلفية يرقد جبل الزيتون المرصع بالكنائس والأديرة، وأجملها على الإطلاق كنيسة الجثمانية (حيث قبض على المسيح بعد أن خانه يهوذا وفق الروايات المسيحية)، وعندما تنظر إلى هذه الكنيسة من وسط الدار يمكنك أن ترى أيضًا الطريق المؤدي من الحرم الشريف إلى جبل الزيتون.
وجميع غرف الدار بما فيها غرف الاستقبال التي كانت في الأصل جامع المطلة على الحرم الشريف تعد مقدسة، والصلاة فيها كما الصلاة في المسجد الأقصى أو الصخرة المقدسة، وكانت تقام الصلاة فيها وراء إمام المسجد الأقصى، ولا يجوز للأمهات أن يلدن في هذه الحجرات لقدسيتها.
قررت أن أوثق قصص أمي، على أمل أن أشجع الآخرين على الحفاظ على ماضيهم، فلا يدَعوا حياتهم اليومية تجرف تاريخ عائلاتهم
شحن ذاكرة الجيل الجديد
وما دفع المؤلفة إلى كتابة هذه المذكرات رؤيتها جهل طلابها الفلسطينيين لخرائط وطنها، وتقول: حين كنت ألقي محاضراتي في بيروت ما بين 1996-2000، وجدت أن عددا من تلاميذي فلسطينيّو الأصل، ولم يكونوا على معرفة بالقرى التي ينتسبون إليها، أو أي شيء عن البلاد التي انتسب إليها آباؤهم وأجدادهم الذين أجبروا على تركها، لم يكن لديهم ماض فلسطيني، في حين تسكن فلسطين في كل ركن من أركان بيتنا وعقولنا، لهذا قررت أن أوثّق قصص أمي، على أمل أن أشجع الآخرين على الحفاظ على ماضيهم، فلا يدَعوا حياتهم اليومية تجرف تاريخ عائلاتهم، ذلك أن الحكايات الصغيرة في حياتنا هي التي تصنع الموزاييك الأكبر للبلد والتاريخ وصروح الماضي الكبير.
وانطلاقا من أول سطر في رواية “أنا كارنينا” “العائلات السعيدة تتشابه، لكن العائلات غير السعيدة تنفرد كل منها بدواعي تعاستها”، وتقول إن البيت هو الذي جعل عائلتها سعيدة، وكان البيت يحمل لقب “بيت الفتياني”.
وتقول من خلال البحث: اتضح لي أن الدار لم تكن مدرسة واحدة، بل مدرستين متصلتين، وكانت المدرسة الثانية هي المدرسة السلطانية، أو المدرسة الأشرفية، والمدرسة الثانية بناها السلطان قايتباي، ويعرف أيضًا بالأشرف (عام 885هـ/1480م) مما يفسر الاسمين “السلطانية الأشرفية”، وكانت هذه المدرسة مغطاة بالرصاص مثل قبة المسجد الأقصى، ولذلك كانت تسمى “الجوهرة الثالثة” جنبًا إلى جنب مع المصلى القبلي ومسجد قبة الصخرة، إلا أن زلزالًا وقع عام 1926م أتى على الجزء الأعلى من المدرسة وجعلها مستوية تمامًا، وهذا ما أصبح يعرف باسم “سطوح السلطانية” فيما بعد، وهو السطح الذي يطل على الحرم المقدس.
ومع أن الدار شيدت بعد فتح صلاح الدين للقدس بحوالي 250 سنة، وأن هناك عائلة للفتياني في السعودية ترجع أصولها لبيت المقدس، فإن الوثائق تؤكد أن القدس شهدت 11 مفتيًا على الأقل من عائلة الفتياني، مما يؤكد أن حكاية الأم لابنتها الدكتورة سحر حمودة كانت مع شفاهيتها الدارجة متسقة مع الوثائق التي جاءت بعد ذلك.
كان من مهام آل الفتياني أن يُحسنوا وفادة الحجاج من شمال أفريقيا والأفغان والأكراد الذين يزورون المعالم المقدسة
ملتقى المناضلين والمنفيين
وكان من مهام آل الفتياني أن يُحسنوا وفادة الحجاج من شمال أفريقيا والأفغان والأكراد الذين يزورون المعالم المقدسة، وكان بعضهم من المناضلين والمنفيين السياسيين، وكانوا على الرحب والسعة دائمًا، فكانت تقاليد بيتنا لاستقبال الرافضين للاحتلال يرجع تاريخها إلى سنوات الحروب الصليبية عندما قيل إن الغزاة ذبحوا 300 فرد من عائلة الفتياني، حضر الطبطبائي والسامرائي من العراق، والثعالبي قائد المقاومة التونسية الذي كان يمضي الليل في دارنا.
وكانت في بيتنا صورة كبيرة معلقة على حائط غرفة الجلوس للمناضل عبد الخالق الطُّرِّيسي المنفي من المغرب، والذي أصبح بعد ذلك أول سفير للمغرب في مصر، وكثيرا ما كان يزور دار الفتياني بعد ذلك، وكان من الزوار المنتظمين لدينا من أفغانستان المناضل محمد صادق المجددي الذي عيّن أول سفير لأفغانستان في مصر، ورأيت في بيتنا إلى جانب كل هؤلاء الشيخ عبد الحميد الأفغاني، تاجر السجاد المقيم في مدينة يافا، وحين كان أمير الأردن لاحقًا الملك عبد الله يقوم بزيارة القدس، كان رجال دار الفتياني يتركونها مؤقتًا حيث تقيم في الدار زوجة الملك عبد الله وحاشيتها طوال إقامتهم في القدس.

مراتع الصبا مع بنات الحاج أمين الحسيني
وتدوّن الدكتورة سحر حمودة متكئة على حكايات والدتها: اسم أبي بالكامل عبد الحميد عبد الرازق عبد الرحمن الفتياني، والده كان جابي ضرائب للإمبراطورية العثمانية ومسؤولا عن قرى القسطل وعين كارم وصطاف، وكان عدد سكان صطاف 383 نسمة عام 1931، ولم يكن بينهم يهود، والآن لم يبق منها شيء سوى بعض المباني المهدمة، إذ هاجمتها العصابات الصهيونية ومحتها من الوجود في يوليو/تموز 1948م، فتشتت أهلها، ويبدو أن آل الفتياني كانت لهم علاقة خاصة بصطاف حيث توجد أرضهم، وكان جدي عبد الرازق يتحكم في البلد وتزوج 8 نساء من صطاف، القرويات جميلات وممشوقات القوام وكثيرات منهن عيونهن زرقاوات.
تزوج عبد الحميد فتياني مفتية نور الدين، وأنجبا ولدين و4 بنات، كانت هند فتياني إحداهن، وكانت أختها خديجة تكبرها بتسعة شهور فقط، وكانتا تلعبان معا في ساحة الحرم الشريف تصعدان سلالم ساحة الصخرة العريضة قبالة باب السلسلة، تتزحلقان على الدرابزين، وكان سبيل قايتباي في مواجهة البوابة، فكان ملاذهما عندما تلعبان الاستغماية.
وتحكي المؤلفة: كان لدي صديقات أخريات في ساحة المسجد الأقصى، منهن بنات المفتي الحاج أمين الحسيني الخمسة، وكنا نفرح برؤية الحسيني في القدس حيث كان يسكن في دار قريبة للمسجد، وكنت أهرع إلى تقبيل يده عندما كان يخطو من باب داره الذي يفضي إلى الحرم الشريف كبيتنا، ضاربًا عصاه بخفة، يذهب برشاقة إلى المجلس الإسلامي الأعلى في البوابة المجاورة، بجبته السوداء تتدلى من ورائه، وعمامته البيضاء، كان منظره مثيرًا للإعجاب.
كان منزل الحاج الحسيني، مفتي فلسطين الجليل، في الأصل مدرسة مثل دار الفتياني، وكانت في العهد المملوكي مدرسة كبيرة يسكنها السلطان فرج بن برقوق، وفي أيام قايتباي كان مقرًّا للحكم وإقامة العدل، وعندما دخل العثمانيون القدس تحولت إلى محكمة واستمرت كذلك إلى أن صارت منزل الحاج أمين الحسيني أثناء الاحتلال البريطاني، وكانت كل هذه المنازل حول أسوار الحرم الشريف، كانت دور علم قبل أن تصبح منازل عائلات القدس الرائدة.
وتتحدث عن شدة والدها في البيت وحزمه فتقول: كنت أشعر أنه بالكاد يلحظني، كنت أختبئ تحت طاولة المطبخ حين أسمع خطواته على السلالم، مرة واحدة ظهرت مشاعره نحوي حين أصبت بمرض التهاب اللوزتين، ورفضت درجة حرارتي أن تهدأ وأنا مجللة بالعرق، فكان يذرع أرض الحجرة التي أنام فيها جيئة وذهابا، وهو يذرف الدمع ويدعو الله لشفائي، وأسمعه: لست قلقًا على الأخريات كبرن وتزوجن، ولكن هذه الصغيرة من يتولاها بعد رحيلي؟
وكانت الحياة خارج أسوار القدس غربة لأهل القدس، وكانت نساء القدس إذا تزوجن وعشن خارج أسوار القدس في بلدة أخرى مثل يافا أو عكا أو غيرها من المدن الفلسطينية يُعتبرن أنهن يعشن في غربة.
جاءت المتاعب كلها مع مجيء الإنجليز واحتلالهم فلسطين في ما يسمى الانتداب البريطاني البغيض، ومنذ ذلك الوقت بدأت أحزان القدس والمقدسات وكل فلسطين
مدينة السلام تحت الاحتلال
وجاءت المتاعب كلها مع مجيء الإنجليز واحتلالهم فلسطين في ما يسمى الانتداب البريطاني البغيض، ومنذ ذلك الوقت بدأت أحزان القدس والمقدسات وكل فلسطين، فقد سمحوا بالهجرة اليهودية بكثافة واحتكار الوظائف الحكومية ومطاردة الشباب الفلسطيني في كل مكان، وطبق المحتلون الحصار على جميع أنحاء فلسطين، وخاصة على القدس، بقيادة عصابات الهاغانا وشتيرن، وفرض الإنجليز منع التجول على البلدة القديمة الذي استمر ما يزيد على 6 أشهر، وكان الجنود الإنجليز يقتحمون البيوت في أي وقت يفتشون وينهبون ويقتلون أحيانا، ولم يستسلم الشباب الفلسطيني وبدأت حركات مقاومة شديدة تتبعها مطاردات، وكان من المطلوبين من قبل الاحتلال عبد السلام فتياني، شقيق المؤلفة، ويصفونه بجماله الذي كان يلفت ويجذب انتباه الجميع حتى لقبوه بيوسف لشدة جماله، وكانت مهمته تعقب الخونة والتخلص منهم، حتى قبض عليه بعد سنوات من المطاردات، ولكنه يهرب من السجن، ويأتي لوداع أسرته حيث تم تهريبه إلى مصر للدراسة في الأزهر.
ورغم القتل والمطاردات، حاولنا أن ننهج حياة طبيعية، ظنا منا أن الإنجليز سيرحلون عاجلا أو آجلا، كما رحل العثمانيون والصليبيون والفرس واليونان والرومان، ونعود لحياتنا كما كنا قبل مجيئهم، كانت لنا أعيادنا، الفطر والأضحى، كانت هناك أعياد عديدة نحتفل بها على الطريقة المحلية، أهمها الاحتفال السنوي بسيدنا موسى الذي بدأه صلاح الدين في عيد الفصح، إذ يأتي أهالي كل قرية إلى القدس والحرم ويستعرضون مهاراتهم، وكان المكان يعج بالوافدين فلا يوجد مكان لقدم، وحيث الباعة بسلالهم المملوءة باللوز الأخضر، وفي هذه الأثناء تمتلئ الأسطح المطلة على الحرم بالنساء والأطفال لمشاهدة تلك الفعاليات، وبرصانة أكبر يكون الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج في شهر رجب، فكانت احتفالية تبعث على الرهبة عندما يدور المصلون حول الحرم حاملين مصابيح الزيت من بعد أذان المغرب حتى صلاة العشاء.
وتتساءل المؤلفة بحزن: “ماذا عن فلسطين هذه الأيام، والغربة التي يحيونها خارج فلسطين، وليس فقط خارج القدس؟ مع نكبة 1948 لجأ بعض الفلسطينيين إلى مصر ولبنان وسوريا على أساس أنها رحلة مؤقتة، وبعدها يعودون إلى منازلهم، ذهبت عائلة هداية إلى مصر، وعندما تمدد المقام إلى مرحلة المنفى تزوجت الأخوات الصغيرات، تزوجت خديجة مصريا واستقرت في الإسكندرية، أميمة تزوجت فلسطينيا واستقرت في عمان، سعاد تزوجت أميركيا واستقرت في أميركا، بينما تزوجت ليلى سعوديا، ومن لم يتزوجن عشن ومتن في القاهرة والإسكندرية وجدة وعمان.

في ظلال الأحزان
وتلتحق بالمدرسة الإسلامية ثم المدرسة الألمانية في القدس، تنجو من مقصلة الزواج في سن الثالثة عشرة كما حدث مع إخوتها، وخالتها عائشة التي تزوجت في بيت جديد كان يسكن جوارهم مساعد المندوب السامي البريطاني، وفي عام 1948 استولى الصهاينة على هذا المنزل الجديد، لم يُبَع كما كانت تشيع الدعاية اليهودية ليصدقها العالم، الفلسطينيون لم يبيعوا بيوتهم، كان منزل خالتي عائشة من تلك البيوت التي احتلها اليهود بالسلاح، وفي عام 1967 حين قامت خالتي بزيارة منزلهم الذي استولى عليه اليهود وجدت أن السكان هم مهاجرون أغراب، وكل عائلة تقيم في حجرة تنام في سريرها وتتناول الشاي في فناجينها، وتستخدم ملاءاتها، لم يتغير شيء سوى السكان.
وأما أخوها طاهر فكان أقرب إخوتها إلى نفسها، فقد اتخذ طريق النضال مثل شقيقهم عبد السلام، وبعد تفكير رأى أن يناضل بالقلم بدلا من السيف، أجاد 4 لغات وحفظ القرآن واختلط بجماعة الشيخ الحسيني، وأسسوا صحيفة الجامعة العربية سنة 1937، والتحق بالجامعة الأميركية في بيروت ولكنه اضطر أن يتركها لنشاطه السياسي، ولكن يموت عبد السلام في ريعان الشباب، وقبله بعام يموت الوالد عبد الحميد.
وفي النكبة استولى اليهود على كل الأماكن التي تركها البريطانيون تاركين العرب في القرى والمدن لعصابات اليهود المسلحة بشتى أنواع الأسلحة، ويشعر الفلسطينيون بالخوف على حياتهم، ويبدأ كل أب في البحث عن مكان آمن لأبنائهم وزوجاتهم، ومع هجمات اليهود على القرى الخاوية من أي أسلحة ووقوع مذبحة قرية دير ياسين، تقوم العصابات اليهودية في تصفية القرى والمدن بقوة السلاح بعد أن تركتهم بريطانيا لقمة سائغة في أيدي اليهود الذين تسلحوا خلال فترة الهدنة حتى الأسنان، وحتى عندما أعاد الفلسطينيون تنظيم قواتهم كانت العائلات قد أرسلت أسرها إلى لبنان وسوريا ومصر، وكان نصيب مؤلفتنا أن تذهب إلى الإسكندرية مع أسرتها لتعيش حياة الشتات بعيدا عن تراب الوطن الذي حملته معها أينما حلت أو رحلت.
أما دار الفتياني فما زالت قائمة، ولكنها محاصرة، ولم تعد تستقبل الزوار كما السابق، إذ يتعذر دخولها في الأوقات التي تفرض فيها شرطة الاحتلال حصارا على أبواب الأقصى، أو تمنع دخول المصلين إليه خلال اقتحامات المستوطنين.