كتاب “مؤسسة التصوف” والصوفية كمؤسسة اجتماعية متأصلة عبر الزمن

لطالما شغلت الظاهرة الصوفية حيزا مركزيا في التاريخ الإسلامي، إذ اعتُبر التصوف أحد المسارات الكبرى التي عبّر من خلالها المسلمون عن علاقتهم بالله، وعن فهمهم للعالم، وعن تنظيمهم لأنماط الحياة الفردية والجماعية.
وقد ركزت الدراسات التقليدية في الغالب على البعد الروحي والأخلاقي للتصوف، منصرفة إلى تحليل التجارب الفردية للزهاد والأولياء، أو إلى استقصاء المضامين الرمزية لنصوصهم وممارساتهم الشعائرية. غير أن هذا التوجه، رغم ما قدمه من إضافات ثمينة، ظل قاصرا عن الإحاطة بالشبكات المؤسساتية والاجتماعية التي نشأت في كنف التصوف وتفاعلت معه عبر العصور.
وفي هذا الإطار، يأتي كتاب “مؤسسة التصوف” (Sufi Institutions)، الذي حرره المستشرق الفرنسي ألكسندر باباس، ضمن أبرز الإسهامات الحديثة في ميدان الدراسات الصوفية.
فالكتاب، الصادر عن “دار بريل” عام 2020، والمترجم حديثا إلى العربية عن دار مدارات في القاهرة عام 2025، يضم بين دفتيه أكثر من 20 دراسة لباحثين مرموقين، تناولوا بالتحليل المعمق البنى المؤسسية التي أنشأها المتصوفة وتفاعلوا ضمنها، وذلك في سياقات تاريخية وجغرافية متباينة تمتد من المغرب إلى الهند، ومن العصور الوسطى إلى العصر الحديث.
ينقل الكتاب دراسة التصوف من الحقل التقليدي المتمثل في التجربة الروحية الفردية إلى فضاء مؤسساتي واجتماعي، حيث تقرأ الزوايا والطرق الصوفية بوصفها كيانات فاعلة، لها بناها الداخلية، وآليات تمويلها، وعلاقاتها المعقدة بالسلطة والمجتمع.
الأطروحة والمنهج
يتمحور الطرح المركزي للكتاب حول فكرة مفادها أن التصوف الإسلامي بمجمله لم يكن تصوفا قائما على العزلة أو التجربة الفردانية الخالصة، بل كان حركة مجتمعية مؤسسية متجذرة في الواقع السياسي والاجتماعي.
ومن هذا المنطلق يقدم باباس في مقدمته إطارا نظريا يدمج بين التاريخ، والأنثروبولوجيا، ودراسات الدين، ليقترح مقاربة شاملة للمؤسسة الصوفية تتجاوز المفهوم الضيق للطرق الصوفية، الذي يقتصر على رؤيتها بوصفها تجليات للتدين الشعبي أو مظاهر للورع الشخصي فحسب.
هيكل المحتوى ومحاوره
يتوزع محتوى الكتاب على 6 محاور رئيسة، كل منها يتناول بعدا من أبعاد العمل المؤسساتي الصوفي.
البعد الأول: النشأة والتطور التاريخي للمؤسسات الصوفية
يستهل باباس الكتاب بفصل تمهيدي يستعرض فيه التحول المؤسسي الذي شهدته الصوفية منذ القرن العاشر الميلادي، ويعيد بناء مسار تطور الرباطات والخوانق (جمع خانقاه) بوصفها نوى أولية لتجسيد الحياة الروحية في فضاءات جماعية منظمة، ويبرز في تحليله كيف مثل هذا التطور نقلة في التصوف من الممارسة الفردية إلى تأسيس شبكات اجتماعية واسعة النطاق.
في السياق ذاته، يوضح ناثان هوفر فكرة أن الطرق الصوفية اتسمت منذ نشأتها بمرونة تنظيمية عالية، مما أتاح لها الانتشار عبر مناطق مختلفة من العالم الإسلامي والتكيف مع شروط البيئة المحلية.
البعد الثاني: الاقتصاد والتمويل الصوفي
يركز المحور الثاني على البنية المالية للمؤسسات الصوفية، وفي هذا السياق، يتناول آدم سابرا دور الأوقاف في تمويل الرباطات والزوايا، خاصة في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، ويظهر كيف منحتها الأوقاف قدرا من الاستقلال المالي مكّنها من البقاء والاستمرار خارج هيمنة الدولة المباشرة، مبينا كيف أسهم الصوفيون في توجيه الموارد الاقتصادية لخدمة شبكاتهم الدينية.
وفي الدراسة، التي أجراها ناثان هوفر في هذا الفصل، حديث عن أهمية شبكات التبرعات الفردية والجماعية في تعزيز الصلة بين الطرق الصوفية ومجتمعاتها.
البعد الثالث: المعمار والفضاء الصوفي
يحظى الفضاء المعماري للزوايا باهتمام لافت في الكتاب، وقد تناولت دافنا إفرات في دراستها الطابع المعماري للخوانق، مشيرة إلى الرمزية المتضمنة في توزيع الفضاءات الداخلية: من قاعة الذكر، إلى المطبخ الجماعي، إلى غرفة الشيخ، ويذهب باولو بينتو أبعد من ذلك، فيرى أن هذه الفضاءات لم تكن مجرد أماكن إقامة أو عبادة، بل مثلت بنى معنوية تعبر عن التراتبية والعلاقات داخل الجماعة، وفي هذا الفصل يعيد ناثان هوفر قراءة فكرة الرباط، فيراها مؤسسة صوفية مبكرة، مبينا كيف تحولت الرباطات من مواقع ذات طابع عسكري على الحدود إلى أماكن ذات وظيفة روحية حيث صارت مراكز للزهد والتأمل.
وتنظر كاثرين مايو جوان إلى المقامات على أنها فضاءات روحية حية، تتجاوز وظيفتها الشعائرية لتغدو محطات للذاكرة الجمعية والتعبئة الدينية، والفصل يناقش كيف أسهمت هذه الفضاءات المكانية في تشكيل هوية الجماعات الصوفية وتعزيز الروابط بين الشيوخ والمريدين، وفي تلبية الحاجات الروحية للمجتمعات المحلية.
البعد الرابع: الوظائف الاجتماعية للطرق الصوفية
يتضمن الكتاب دراسات تعكس عمق الدور المجتمعي للصوفيين، حيث تبين رشيدة شيه في فصلها أشكالا من الوظائف التعليمية والخيرية التي اضطلعت بها الزوايا، وتظهر صورا من إسهامات الزوايا في رعاية الفقراء واليتامى، وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية.
وتتناول ناتالي كلايير العلاقة بين الزوايا والفضاء الحضري، فتبين كيف تحولت الزاوية إلى نقطة التقاء لطبقات المجتمع، وإلى نوع من “المنتدى المدني” في كثير من المدن الإسلامية، ويلفت أحمد يشار أوجاق النظر إلى أهمية الطرق الصوفية في الأرياف، حيث وفرت الطرق في الأرياف القيادة الدينية والخدمة الاجتماعية في آن واحد، بعيدا عن هيمنة الدولة المركزية، حيث بدت الزوايا في صعيد مصر مثلا أماكن للحوار والتفاعل الاجتماعي، فضلا عن كونها مقامات دينية.
البعد الخامس: الصوفية والسلطة السياسية
لا يغفل الكتاب العلاقة المعقدة بين الطرق الصوفية والسلطات الحاكمة، فيستعرض ألكسندر باباس تباين هذه العلاقة تاريخيا بين التعايش والتوتر والصعود والهبوط والتفاعل والتنحي، فالعلاقة كانت تنتقل من النصح والولاء إلى المعارضة والتمرد، مشيرا إلى أن التصوف كان أحيانا ذراعا للسلطة السياسية، وأحيانا أخرى صوتا للمعارضة الرمزية.
ففي حين أقامت بعض الطرق علاقة وثيقة مع الدولة، كما هي الحال مع النقشبندية في العهد العثماني، كانت طرق أخرى أكثر انعزالا أو معارضة في بعض الأحيان، يناقش مارك سيدغويك على سبيل المثال تطور العلاقة بين الصوفيين والدولة في مصر الحديثة، ويبين أن السلطة كثيرا ما حاولت تأميم التصوف وتوجيهه.
ولا يفوت ريتشارد ماكغريغور أن يحذر من اختزال هذه العلاقة في الثنائية التبسيطية (موالاة أو معارضة)، داعيا إلى فهمها من خلال “مصفوفة تفاوضية” معقدة.

البعد السادس: التنظيم الداخلي للطرق الصوفية
يحلل هذا المحور بنية التنظيم الداخلي للطرق الصوفية، بدءا من هياكل القيادة إلى أساليب التربية الروحية وآليات الانتقال بين المراحل الصوفية، ومرورا بنظام الشيخ والمريد، ووصولا إلى تشكل الطرق الكبرى في العصر العثماني. يناقش مارك سيدغويك آليات القيادة والشرعية، مبرزا كيف حافظت الطرق على وحدة رمزية لها رغم اتساعها الجغرافي، ويبحث في المجتمعات الصوفية الأولى ومسارات تبلورها المؤسسي، ويبين سميح جيهان في فصله حول الطرق المولوية فكرة أن الرقص والموسيقا كانت أدوات تعليمية وتنظيمية في آن واحد، لا مجرد ممارسات شعائرية.
وفي دراسة لافتة يقدم ستيفان دودونيون قراءة مستقبلية للصوفية الرقمية أو “التصوف السيبراني”، مبينا كيف وفرت الفضاءات الافتراضية إمكانيات جديدة لإعادة إنتاج العلاقات الروحية، من دون أن تحل كليا محل التجربة المادية للزاوية، ويبين هذ القسم بالمجمل قدرة التصوف على التكيف المؤسسي ومواكبة السياقات المعاصرة.
نافذة جديدة لفهم التصوف
ومجمل القول إن كتاب “مؤسسة التصوف” يمثل خطوة مهمة في إعادة التفكير في التصوف، بعيدا عن القراءات التقليدية التي تعزله عن الواقع الاجتماعي والسياسي، حيث نجح الباحثون المشاركون في هذا الكتاب في تفكيك الفرضيات السائدة التي ترى أن الصوفية تجربة باطنية فردية، وأعادوا تأطيرها ضمن شبكات مؤسسية معقدة، مترابطة مع الاقتصاد والسلطة والفضاء المعماري.
ومن الناحية المنهجية، فإن الكتاب جمع ما بين التحليل التاريخي والأنثروبولوجي، مستفيدا من تراث غني، ومعاينات ميدانية، ودراسات حالة عميقة، وقد مثلت كثافة المشاركات وتنوعها الجغرافي والموضوعي قيمة مضافة تشعر القارئ أنه أمام صورة بانورامية دقيقة لتاريخ المؤسسة الصوفية في الإسلام.
هذا الكتاب يمثل نقلة نوعية في دراسات التصوف لأنه يطرح التصوف من منظور مؤسساتي اجتماعي غير تقليدي مخالف لتوجه التلقي المعتاد الذي ألف أن يركز على الأبعاد الروحية أو الأدبية للتصوف، فهو يفتح نوافذ جديدة لفهم التصوف من حيث هو حركة اجتماعية تاريخية، لها مؤسسات وهياكل تتفاعل مع المجتمع والدولة، لا منظومة روحية منعزلة فحسب.
ويشكل الكتاب -على وفرة ما فيه- حافزا لمزيد من الدراسات التي تنبع من داخل السياقات الإسلامية، لتستكمل ما بدأه هذا العمل الجماعي الجديد وتناقشه.