لماذا كانت “حمص” الضربة القاصمة لنظام الأسد؟
“عاصمة الثورة السورية”، كما يسميها بعض أبناء سوريا، “حمص”، التي تعد كبرى المدن السورية من حيث عدد السكان، بعد دمشق وحماة، وتتوسط خريطة سوريا، فتربط بين مدنها الرئيسية من أقصى الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى ساحل الغرب.
كانت “حمص” إحدى المدن الأولى التي اندلعت فيها التظاهرات السلمية في بدايات الثورة السورية منتصف شهر مارس/آذار عام 2011. حيث كان “الحماصنة” كما يطلق عليهم السوريون من الأكثر السكان حماسة لإسقاط حكم الأسد، وساهمت تظاهراتهم في إلهام السوريين والمدن الكبرى بالخروج على نظامه.
ظلت “حمص” لوقت طويل عصية أمام هجمات قوات الجيش السوري الذي استعمل معها أقصى درجات العنف المروع، بل عمد إلى طمس جزء من هويتها التاريخية والثقافية بقصفه ضريح الصحابي خالد بن الوليد، حتى استطاع استعادة السيطرة عليها عام 2014، وذلك بعد حصار طويل لقلب المدينة. أما ريفها فكان عصيا عليه حتى عام 2018.
وعلى الرغم من التهاوي السريع لريف إدلب ومدينة حلب وريفها؛ فإن المعركة الشرسة التي خاضتها قوات وفصائل المعارضة السورية في مدينة حمص، التي شهدت أقوى التمركزات الدفاعية لقوات الحكومة السورية منذ انطلاق العمليات الأخيرة، كانت اللحظة الأهم التي فتحت الطريق نحو دمشق خلال ساعات.
حمص: أهمية إستراتيجية خاصة
أحد أهم جوانب أهمية حمص إستراتيجيا، هو كونها من أكبر معاقل المؤيدين لعائلة الأسد وأنصاره من العلويين. وهي بوابة دمشق الشمالية عبر طريق “إم-5″، كما تتصل حمص بمدينة تدمر شرقا، والتي تعتبر بوابة الصحاري الشرقية السورية.
كذلك فإن السيطرة عليها تقطع بشكل كامل طرق الاتصال بين دمشق والمحافظات الساحلية في غرب سوريا (اللاذقية وطرطوس)، حيث القواعد العسكرية الروسية في حميميم وغيرها.
كما تُعد حمص بمثابة الرئة الاقتصادية لسوريا، وأحد أهم مراكزها اللوجستية. حيث يوجد بحمص واحدة من مصفاتَي النفط الرئيسيتين في البلاد، وتلعب دورًا حاسمًا في تكرير النفط الخام المعد للاستهلاك المحلي والتصدير، ومن ثم فإن السيطرة عليها تترك تأثيرا بالغا على إمدادات الوقود في باقي المحافظات المجاورة.
إضافة إلى ذلك كله، تعد حمص المركز الرئيس لشبكة السكك الحديدية والطرق السريعة في سوريا، مما يجعلها الممر الرئيسي والأسهل لحركة البضائع والأشخاص والقوات العسكرية في جميع أنحاء البلاد.
ربما جعلت هذه الأسباب دفاع النظام السوري عن حمص مختلفا نسبيا، إذ تدرك قوات الأسد أن خسارتها لحمص بمثابة خسارة ميدانية كبرى لا يمكن تداركها، وأن سيطرة المعارضة عليها تجعلها تتمتع بأفضلية إستراتيجية حاسمة.
سيطرة المعارضة على حمص فتحت الطريق خلال ساعات قليلة للسيطرة على مدينة القصير، واحدة من أهم المدن الحدودية مع لبنان. وفي وقت سابق، عام 2013، احتاجت قوات وزارة الدفاع السورية مدعومة بمقاتلين من حزب الله لمعارك ضارية استمرت 18 يوما لاستعادة السيطرة على القصير وحدها.
وتشير تقارير غربية إلى أن الطريق المارّ بمدينة القصير وصولا لمعبر القصير الحدودي مع لبنان يعد أحد أهم خطوط الإمداد اللوجستية الخاصة بحزب الله، وهو ما يكسب السيطرة على حمص أبعادا أخرى لا تتعلق فقط بموازين القوى الداخلية، بل ربما تتعلق بالتوازن الإقليمي في المنطقة.
وأبعاد أخرى تتعلق بروسيا
وبخلاف أهمية حمص البالغة لدمشق وطهران وحزب الله؛ فإن السيطرة عليها تهدد بقطع خطوط الاتصال بين نقاط التمركز الرئيسية للقوات الروسية في الساحل الغربي مع قواتها القليلة المنتشرة في وسط وجنوب سوريا. خاصة بعد أن رأت روسيا، بحسب “كييف بوست” كيف استولت فصائل المعارضة على العديد من المطارات والمخازن العسكرية الروسية التي تضم العديد من الأسلحة المصنعة في روسيا، مثل منظومة “بانتسير إس1″ (PantsirS1)، وهو نظام صاروخي ومدفعي مضاد للطائرات ذاتي الحركة روسي حديث، و”زد يو-23-4 شيلكا” (ZU-23-4 Shilka) وهي عربة قتالية مجنزرة مضادة للطائرات، إلى جانب أنظمة مضادات طيران محمولة مثل ستريلا-10 وستريلا-2.
ولذا، فإن التطورات الأخيرة في سوريا تفتح التساؤل بشأن مستقبل النفوذ الروسي في البلاد، وهل ستستطيع روسيا الاحتفاظ بنقاط وجودها خاصة في منطقة الساحل، التي تعد أحد أهم مراكز عملياتها في الشرق الأوسط وأفريقيا، ومنفذها الإستراتيجي للمياه الدافئة والخطوط اللوجستية في العالم.
وتمتلك روسيا قاعدة بحرية في طرطوس على ساحل البحر المتوسط، وقاعدة جوية في حميميم، إلى الشمال منها. وقد أحدث التقدم المباغت لقوات المعارضة مع انهيار القوات الحكومية إرباكا ملحوظا لروسيا، فكانت مشاركاتها في دعم قوات الأسد خافتة للغاية ولم تبدأ إلا في اليوم الثالث من العمليات العسكرية.
الضرر الذي يمكن أن يتعرض له الوجود العسكري لموسكو داخل سوريا، من المحتمل أن يترك تأثيرا على نطاق أوسع يتعلق بمستقبل النفوذ الروسي في شمال أفريقيا، حيث كانت تطمح موسكو إلى توسيع حضورها البحري والعسكري في شرق ليبيا وبورتسودان على البحر الأحمر.
وبدلا من الالتفات لخطط التوسع، ربما تصبح روسيا مشغولة بالدفاع عن أهم قواعدها القائمة، والتي تمثل دورا حاسما في التفاف موسكو على محاولات حصار حلف الناتو لها شمالا. ويعتقد الإستراتيجيون الروس أن حضور بلادهم في البحر المتوسط يضمن لهم القدرة علي استهداف قواعد الناتو العسكرية إن أقدم الناتو على استهداف روسيا في أية سيناريوهات ولو كانت مستبعدة، مما يحدث نوعا من تبادل الردع وتوازن القوى.
هكذا كانت تلك المدينة التي لا يتجاوز عدد سكانها 1.5 مليون نسمة، عاملا مهما في حسم الصراع الداخلي في سوريا، وسيتردد صدى سيطرة المعارضة السورية عليها لوقت ليس بالقصير حتى تستقر المعادلة الإقليمية الجديدة في مرحلة ما بعد الأسد.
على جانب آخر: إسرائيل ترقب بقلق
تقع حمص على بعد حوالي 160 كيلومترا من الحدود الإسرائيلية، مما يجعل السيطرة عليها أحد حوافز إثارة القلق الإسرائيلي أيضا. فكما أن المدينة تقع على خطوط الإمداد الرئيسية لحزب الله، كما يسود الاعتقاد بذلك، فإن سيطرة فصائل مسلحة ذات توجه إسلامي عليها تجعل إسرائيل أمام مشهد جديد غير مأمون العواقب.
كانت نظرة إسرائيل للأسد معقدة ومزدوجة، فعلى الرغم من تحالف الأسد مع طهران وحزب الله، إلا أنه استمر في خدمة ذات السياسة المتعلقة بالجولان التي وضعها سلفه حافظ الأسد، حيث لا اتفاق صلح ولا تصعيد بالحرب، مما جعل جبهة الجولان هي الأكثر هدوءا بالنسبة لإسرائيل على مدى العقود الماضية.
تنظر إسرائيل الآن، كما يظهر على لسان قادتها، بقلق تجاه وضع جديد لا يزال يتشكل ولم تتضح بعد كافة أبعاده، كما لم تتضح على وجه الدقة نية الفصائل المسلحة بشأنها وبشأن منطقة الجولان، حتى وإن كان هذا ملفا مؤجلا الآن.
وسيضيف ذلك تعقيدا جديدا أمام إسرائيل التي تكافح لإعادة ترتيب قواتها وترميم عقيدتها العسكرية التي تلقت ضربة قاسية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لذا من المرجح أن تدفع إسرائيل إلى بناء دفاعات جديدة عبر تحالف محلي مع قوات سوريا الديمقراطية الذي تحظى بدعم عسكري وسياسي من الولايات المتحدة الأميركية.
وقد أشار تقرير للمرصد السوري لحقوق الإنسان إلى وجود خطط لدى إسرائيل لما يسمى “ممر داود”، وهو مشروع يسعى للتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية للسيطرة على كافة مناطق الجنوب السوري بدءا من القنيطرة غربا وصولا لمعبر البوكمال شرقا، ومع عدم وجود أدلة مؤكدة على أن إسرائيل تملك خططا فعلية لتنفيذ هذا المشروع فإنها بالفعل أمام اختبار أمني جاد، بدأ وتطور منذ أن سيطرت المعارضة السورية على مدينة “حمص”.